كنت وحيدة بينهم أمشي تائهة، ضائعة، مشتّتة، لا أعلم..
هل كنت أشبههم فعلاً؟ أم أنني تصنّعت التّشبه بهم؟
والحقيقة أننا جميعاً تشابهنا بإخفاء ذواتنا، إخفار تفاصيلنا، إخفاء حتى ابتساماتنا..
كنّا ندرك أن هذا الشبه المصطنع بيننا ليس هو إلّا شيء زائل.
ولنكن واقعيين.. كنت أعلم أنني أنا وحدي من يدرك هذه الحقيقة، ويمكن لأحد ما أن يكون مدركاً مثلي ولكنه أخفى ذلك أيضاً.
ولكن.. هل هذا خَيارُنا؟ طريق نريده حقاً؟
الاختباء وراء أقنعة مزيفة لا تعبّر عنا؟
وراء أقنعة الـ لا والـ نعم التي نقولها مكرهين لإرضاء من حولنا، أو حتى مخافة العقاب.!
لحظة.. هل ذكرت كلمة “تعبير”؟!!
كيف نجرؤ نحن في مجتمع محافظ أن نعبّر عمّا يجول داخلنا وعمّا يخالج روحنا من مشاعر؟!
أذكر أنني أحببت مقلمة زرقاء تحمل صورة “ميكي ماوس” وأردت اقتناءها.. لم تقبل أمي بحجّة أنها “صبيانية”..
أذكر أن ملابسي في العيد منذ صغري وهي تملك لونين باختلاف موسم العيد، ألا وهما “السكّري والأخضر الباهت” لأنها ألوان أبي المفضلة، ولم أستطع يوماً أن أرفضها..
أنا لا أحبّ السمك بجميع أنواعه، وكانت وليمة الغداء في يوم نجاحي “سمك مقليّ ومشوي” ولم أستطيع القول أنني أفضل الدجاج المحمّر..
اجتزت المرحلة الثانوية بعلامات جيدة ودخلت الفرع الذي لطالما حلمت به أمي في صباها، ألا وهو “الأدب الفرنسي” على رغم ثانويتي العلمية..
أحببت أحد زملائي في دفعة الأدب الفرنسي، أحببت تفوّقه وعينيه وأخلاقه، ولم أتفوّه يوماً بكلمة معه تظهر له حبّي ولم أنظر يوماً إلى عينيه..
تقفون على أدوار المازوت لتبتاعوه وتحصلوا على الدفء.. لديكم مجاعة “مازوت”..
بينما أنا لديّ مجاعة “التّعبير”!!
نعم التعبير الذي لم أمارسه يوماً في قراراتي أو آرائي أو حياتي الشخصية التي تخصّني وحدي،
لطالما خفت الرّفض، خفت البَوح، خفت القول والضحك والكلام.
ألتزم بما تقوله لي أمي وأختي الكبيرة التي تزوجت من ابن عمي لأنه “مأمّن حاله” ولم تختر فارس أحلامها الذي لم تعرف ملامحه يوماً..
التعبير الذي أحتاجه لأحرر ذاتي من ذاتي،
لأحرّرني من حبسي وأقف على ناصيتي وأحلم،
لأرتدي قناع القناعة بذاتي وأقف بعنفوان مقاتل وأثور على الصمت المطبق على صدري وأقول:
“أنااا هنااا.. أنااا حيّة..” أريد النطق بآلااف من الـ لا، ومئاات من ال نعم، أن أرفض قناع القنوط لتعبيرهم عني، وأن أعبّر عنّي أنا،
بصوتي أنا، برفضي أنا وبموافقتي وبفرحي وبحزني وبحبّي وكرهي أنا لا هم..
أن أرتدي ألواناً أحبّها،
أن أشتري قطع الحلوى التي أفضّلها،
أن أدرس الحقوق التي أحلم بها.
أنا التي وهبتني الحياة اثنين وعشرين غصناً منها، أريد حقّي من التعبير في الحياة، كحقّي من الطعام والأمان والكلام والتعلّم..
أنا كلّ الحياة، عيناي شمس القرار، وصوتي ناي الجواب،
فبأيّ حقّ يُحرم صوتي من البَوح؟
وبأيّ حقّ تُحرم عينايَ من التّعبير؟