كلنا نكره ذلك الروتين الذي يجعل حياتنا عبارة عن يوم واحد متكرر؛ لكن بعض هذه الروتينات تكون مفضّلة لقلبنا جداً ولا نملّ من وجودها، وذلك قد يحدث في الكثير من الأماكن.. كالعمل مثلاً!
لا ننكر أثر العمل على حياتنا، في جميع النواحي والزوايا.. زاوية الخبرات، زاوية العلاقات الاجتماعية، زاوية التعلّم، زاوية الأصدقاء، زاوية التعلّق، زاوية الشّغف، زاوية الإتقان، زاوية التدريب، زاوية المهارة، زاوية الحياة!
لا تستطيع أن تكتشف ذاتك حقّ الاكتشاف إلّا في حال تعرّضك للعديد من الظروف.. القاسية واللينة، المريحة والصعبة، الجميلة والبشعة. لا يمكنك اكتشاف ذاتك إلّا بعد تعرّضها لذلك الموقف الذي يُخرجها من قوقعتها.. من داخلك.
أنت كوكب مليء بالأسرار ولا يسعك اكتشافه إلا بالإفراج عنه؛ والعمل هو ذلك الفضاء المليء بالمغامرات التي تستدعي لداخلك بالظهور، إما الظهور الذي يرفعك للأعلى، أو يودي بك إلى الأسفل.
دوماً ما ترافَق الحديث عن العمل والشّركات وأصحاب العمل والموظفين بكلام الفلاسفة، وأقوال المشاهير والعلماء مثل: آرثر كونان دويل – إبراهام لينكولن – بيلفر شتاين: (يظن كثير من رجال الإدارة أن العلاقات الإنسانية فصل في كتاب تنظيم العمل، وهم مخطئون في هذا، فالعلاقات الإنسانية هي كل الكتاب) – جورج باتون: (لا توجه الناس دائماً إلى كيفية أداء أعمالهم.. أخبرهم بالمطلوب وسيفاجئونك بابتكاراتهم)…
وطُبعت تلك الأقوال وغيرها وعُلّقت على الجدران للاحتذاء بها، وأنا لا أنكر فضل هؤلاء العظماء على البشرية، ولا أنكر صحّة أقوالهم ونصائحهم، ولكن هل حاول أحد أن يأخذ مقولة موظف في شركة ما ووضعها في لوحة رسمية في ممرات العمل؟ كما نفعل مع مقولات المشاهير؟
هل حاول أحد أن يأخذ تغذية راجعة من العاملين ويسمع أقوالهم أو حتى أن يسجلها ويعمل عليها؟
هل رأى أحدكم يوماً مقولةً لـعامل الطّباعة معلّقة على الحائط الرئيسي للمكتب العام؟
عن نفسي أنا فلم أرَ يوماً ذلك أبداً.
يُعامل الموظّفين -في أغلب الشركات والمؤسسات والمشاريع الصغيرة والفِرَق- على أنهم آلات أو ماكينات أو حتى روبوتات عليها تسجيل الطلب والعمل عليه وتنفيذه فقط، دون خطأ أو نقصان، دون راحة.. فالروبوت لا يتعب! ولا يشعر ولا يتذمر ولا يملّ ولا يريد ولا يرفض! وعلى العاملين أيضاً أن يكونوا كذلك.
وكمدير عمل يجب أن أعاقبك نتيجة تقصيرك في أمر ما، بينما لا أقوم بمكافأتك على عملك وهو واجب منك!
موظف، عامل، متطوع، عضو، فرد.. اختلفت التسميات والشخص واحد: إنسان.
إنسان له حق الرفض حين يرى أن هذا العمل خاطئ، الرفض لأنه لا يستطيع تسليمه في الوقت المحدد، الرفض لأنه لا يناسب شغفه، الرفض لأن العمل المطلوب يحمل رسالة أو محتوى خاطئ.
يحق له أن يعطي رأيه بمكان عمله، وأن يرفع صوت تفكيره ليشاركه مع الآخرين.
يحق له أن يأخذ وقتاً للراحة على أن ينجز أعماله في وقتها.
يحق له الاعتراض بغرض التحسين لا بغرض الكلام فقط.
يحق له أن يُكافَأ على ساعات عمله حتى لو كانت من واجبه.
بعض العاملين يقضون أوقاتاً في عملهم أكثر من وقتهم في منزلهم! ألا يستحقون التقدير؟
من حقّه أن تشكره على أداء عمله، أن تمدح منه، أن تذكر إنجازاته.. من حقّه أن يُذكر اسمه بين الجميع.
في مقابل كل ذلك على العامل أن يعطي عمله كل الاتقان، أن يعمل بحبّ وينجز بحبّ.
أن يكون محقّاً ومعطاءً في عمله.
ولكل مدير ما أعطى، ولكل عامل ما أخذ.. إن أعطيت التقدير نلت الإنجاز، وإن أخذ الاحترام أعطى بضمير.
موظفين أو عاملين من هذا المجتمع يقولون الكثير ويتمنون الكثير في مجال عملهم..
يقول الموظف رقم 1: “كنت أتمنى لو أن مديري في العمل حفظ اسمي، أو ناداني به بالشكل الصحيح، كنت أتمنى لو عرف ماذا أملك من المهارات وكيف أتقن عملي، أو عَلِم كم كان عملي يعني لي!”
يقول موظف رقم 2: “لو كنت في مكان المدير غالباً كنت جعلت الموظفين أصدقائي، شاركتهم بإفطارٍ صباحيّ، ذهبنا في رحلة من اختيارهم كمكافئة لهم، تواجدت معهم في مكان العمل وعملت معهم أيضاً من باب المشاركة”
بينما يقول موظف رقم 3: “مررت في حياتي العملية ب 4 مدراء عمل، لكلّ منهم أثره الخاص في حياتي.. منهم من بقي أثره إلى اللحظة هذه، ومنهم من رفضت العمل معه، ومنهم من أراني معنى المدير الحقّ، آخر علمني الكثير من الأمور العظيمة”
الموظف رقم 4: “العمل لا يفصّل كما يحب المرء، والحياة ليست أن تكون مسؤولاً أو مديراً.. الحياة هي أن تعمل في العمل الذي تحبّه وتملك شغفاً اتجاهه”
موظف رقم 5: “لا يمكنك أن تعمل في مكان لا راحة لك فيه ولا أثر، حين تشعر بأن المكان بدأ بخذلانك.. ارحل”
موظف رقم 6: “كَوني موظف سابق، لو كنت المدير لأعطيت الموظفين اهتماماً أكبر، وأن كل عامل هو ركن أساسي من أركان العمل”
موظف رقم 7: “تقدير الأشخاص شيء قادر على إنجاز المستحيل وإظهار الطاقات المدفونة داخل كل فرد وتقديمها بالشكل الأمثل”
داخل كل موظف من هؤلاء حكاية كبيرة.. موظفين خاضوا تجربة العمل بحقّ وشاركوها هنا.
لا يمكن تعميم الوضع على المدراء جميعاً، ولا على العاملين جميعاً.
وكذلك أيضاً لا يمكننا الحديث عن وجود مشكلة بدون إيجاد الحل لها، أو أقلّه اقتراح الحل..
البعض من أولئك الموظفين اقترح بعض الحلول وكان منها:
- “إن أهم ما يُمنح للعامل هو إحساسه بأهميته في مكان عمله، وأنه في منزله وكل الأشياء لراحته، وأن فريق العمل هو العائلة التي ينتمي إليها ويجب عليه احترامها وإعطائها الحب والالتزام”
- “التعرّف أكثر على الأشخاص العاملين، ومشاركتهم اهتماماتهم حتى لو لم تطابق العمل، وجود هذه الروابط بين المدير وموظفيه شيء أساسي، ويكوّن أسرة عمل حقيقية وناجحة”
- عدم الاستهانة بأي عمل أو تصرف يقوم به أي عضو من أعضاء الفريق، ذلك يكسر حاجز الثقة، وحين يُكسر هذا الحاجز.. لا يمكن لمئات الاعتذارات أن تبنيه أو أن ترمّمه”
- “الاستماع والإنصات للمشاكل بحيادية ودون التقليل من أهمية أيّ أمر، ذلك يوطد العلاقات الإدارية، والسؤال الدائم عن أحوال وأوضاع العاملين والعمل على مشاركتهم الرأي والقرار حين يسمح ذلك”
- “نفّذ ثم اعترض!” تلك المقولة التي تُستخدم غالباً في الحروب والنزاعات والأماكن التي لا يُسمح بها بتواجد الخيارات، هي مقولة لا تناسب العمل التشاركي والتطوعي ولا حتى الوظيفي!”
والكثير من الحلول التي يمكن اتخاذها والمضي فيها، وأيضاً الموجودة بين أيدي الجميع ولكن تحتاج للبحث عنها أكثر والتصديق بأن هناك مشكلة ويجب حلّها.
لا يمكن أن يواجه المرء أمراً أصعب من تخلّي الأماكن التي يحبها عنه!.. بعد سنوات من التواجد في عمل ما، يحفظ تعاليمه ويتعلّق بأشخاصه، يبني حياته الدراسية والمجتمعية على أساس عمله.. أصدقائه، زملائه، استيقاظه ونومه ويومه وكل الأمور المحيطة به.. وبعد ذلك يجد نفسه خالياً من كل شيء، لا يعود المكان كما كان، ولا أيامه تكون على ما يرام.
حين يطلبون عِلْمك أولاً، وحين تحصل عليه يطلبون سنوات الخبرة، وحين نحصل عليها وتجنيها يطلبون عدّتك وأشياؤك التي يجب أن تعمل بها.. حسناً؛ كيف أحصل عليها إن لم أعمل؟ كيف أجني الخبرات إن لم أُقبل بمكان يعطيني تلك الخبرة المطلوبة؟ كيف أطوّر من معلوماتي وخبراتي التي أمتلكها إن لم أجد ذلك المكان الذي يتبنّى وجودي ونعمل معاً على تطويري وتطويره؟
بعض الأحيان لا يعلمون حجم الخيبة التي قد تصيبنا أثر رفضنا من المكان الذي نحلم بوجودنا به، بعضهم لا يملك أدنى فكرة عن كارثة إغلاق الأبواب وعدم السماح لك بأخذ فرصة ثانية لتحاول، لتعيد تجربة الأمر بطرق جديدة، لتتعلّم من خطأك..
لا يعرفون كيف يمكن لأحد أن يشعر بأنه قد وقع من السماء إلى الأرض فقط لأنه نظر إلى الأعلى! حالماً بالكثير من الأشياء التي يريد أن يفعلها؛ لكن الأرض لا تساعده على ذلك. أنت هنا لا تحتاج إلى الحلم فقط! بل تحتاج لذلك الواقع الذي يمكنه أن يحتضن أحلامك أيضاً..
لا يعلمون في بعض الأحيان كيف يمكن أن تصبح عاطلاً عن الحياة بمجرد أنك أصبحت عاطلاً عن العمل..! العمل الذي تحبّ وترى نفسك به، ومن خلاله تحقق ذاتك، تريد به أن تستقلّ بنفسك عن كل الأمور وتتفرّد بحرّيتك العملية والعلمية والمجتمعية.