خُلقت بصرخة.. دوّت أرجاء الحيّ، فأيقظتُ قلوب النائمين، واستيقظوا من سباتهم متعجّبين لصوتي.. ما هذا؟! 

ومن أين أتت تلك الصّرخة!؟ 

في ليلتي الأولى أرعبتُ أبناء الحيّ وهززت كيانهم، وفي ليلتي الثانية أربكتُ الأحياء المجاورة، وفي لياليّ المتتالية.. أصبح صوتي صدىً تردده كلّ الجدران والأحياء. 

أصبح عمري سبع سنوات! ولم أحتفل يوماً بميلادي كما تحتفلون أنتم! 

بدأ الشّيب يجتاح رأسي مبكراً، وبدلاً من أن أرى أسناني تظهر.. رأيتها تقع سنّاً وراء الآخر.. سنةً وراء الأخرى. 

مررت بأحياء كثيرة، وتخيّلوا أن اسمي كُتب على جدران عديدة! اضطررت للمبيت في بيوت عديدة، وكان مبيتي في تلك البيوت عقاباً لأصحابها، فالعديد ممن زرتهم فقدوا جزءاً منهم..

انتُهكت جميع حقوقي، استُنزفت قواي حتى بتّ لا أقوى على متابعة السّير..

كيف أقول للأطفال أنني آسفة على إرعابهم؟ وكيف يغفر لي الأب الذي فقد فلذة كبده إثر رصاصة طائشة؟ كيف أبرر لأرملة بعد وفاة زوجها بخمسة أشهر من زواجهم أن ليس بيدي حيلة حول ما يحصل؟

كيف يمكن أن أختفي؟ وقد اتُّخذوني سبيلاً لسرقاتهم وتجاراتهم الدنيئة، وحاكوا ألاعيبهم حول اسمي، ولم أستطع الوقوف ضدهم فقتلوا قوّتي أنا التي لا تُهزم..

سبع سنوات من الشّتم والعذاب، فأنتم لا تعلمون كيف يمكن لأحدٍ أن يرى العذاب في عيون أولاده.. ولا يستطيع فعل شيء، كدمية تحركها أيدي خفيّة..

لقد أوشكت على إطلاق زفراتي الأخيرة، أنا جادة، لم أعد أقوى على المقاومة.. وأيّة مقاومة تلك التي أتكلم عنها في حضرة الموت؟ 

أنا الحرب التي أنهَكَت قلوب الملايين وشرّدت مئاتها، بل آلافها.. لجوء ونزوح ودمار، وكل محاولات الإصلاح كاذبة.. من يصلح الأفئدة المتهشّمة؟ ومن يصلح الأرواح التائهة بين الجدران البلاستيكية؟ من يحمي العيون المترقبة للذئاب التي تنقضّ لتنهش لحوم الأبرياء؟ 

تلك القلوب الخائفة المرتجفة خلف قيود الأمان، وقد لا ترى الأمان.. 

من أين لي قوّة المقاومة وقد هدّتني نظرات الثّكالى وأصوات المُبعَدين قسراً؟ أسمع صراخهم في منامي، وأرى وجوههم في طريقي.. 

تعبت من عتاب الطرقات التي هدّتها أقدام الوحيدين المتعبين المشرّدين.. 

أنا التي نشأَتْ بين ليلة وفجر.. بين حائط وحجر، بين الضّحك والمزاح، بين التّحدي والخوف، بين سكّين وخنجر، بين هروب وقتال، بين لعبٍ وجدّ.. 

أربعٌ وثمانون شهراً كانوا مخاضاً لأحلام، بل لأضغاث أحلام، بل لحقائق، بل لوثائق، بل كانوا عنواناً للآلام.. 

مر ألفان وخمسمئة وخمس وخمسون يوماً على صراع لا يغيث قشّة من غرق.. 

أريد أن أودّعكم بولادة فجر جديد، أريد وداعكم بلا عودة لي، أريد نجاتكم منّي إلى الأبد.. 

أريد أن أهب قوّتي لكم أيّها الصّامدون في وجهي ووجه رياحي العاتية.. أيّها العائدون.. أيّها النّاجون، أيّها الأقوياء، أيّها الشّهداء، أيّها المنتظرون، أيّها المهشّمون، أيّها المتنهّدون خلف سياج الجوع، أيّها الشّاهدون، أيّها الصّابرون الأوفياء.. لكم وعليكم من الله السّلام.

بقلم: سُندس زَنكاوان