تحاول دوماً نسيان الأمر برمّته.. إلّا أنّك تتذكره في كلّ شهيقّ وزفيتحاول دوماً نسيان الأمر برمّته.. إلّا أنّك تتذكره في كلّ شهيقّ وزفير..!
تغمض عيناك لتجد الأمر معلّقاً بين جفنيك..
لا بأس بتلك المحاولات العديدة، لا بأس بالحوارات التي تحصل داخل عقلك وتلك الأسئلة التي تعيث خراباً في دماغك..
لا بأس بتلك اللحظات الجنونيّة التي تأتي إلى بالك فلا تستطيع تنفيذها إثر انخمادها..
لا بأس بتلك اللحظات السّعيدة التي ضاعت سدىً..
لا بأس بتلعثم كلامك أثناء نسيانك ما تريد التكلّم عنه لضياع عقلك منك..
لا بأس..
لا بأس بتلك الانهزامات التي تأكلك من داخلك..
لا بأس بالأيام التي تمضي وأنت واقفٌ مكانك لا تشعر بها ولا بأيّ شيء يحيط بك.
________
دقّ ناقوس الحقيقة.. دقّت ساعة الاعتراف، كان لابدّ لي أن أعلم في نهاية المطاف..
إنّها الشّمس، إنّها الشّعاع القويّ الذي أدمى قلبي فأصابه بالإغماء..
- من أنت؟
“”.. أدعى عَيان..
عُمري أربعٌ وثمانون حقيقة وألفُ اعتراف وخمسٌ وثلاثون خيبة.. أمارس الصّدق لأنجب الحقيقة التي هي عُمري..
أدرسُ الخذلان وكنت ضحيّة العديد من الخداعات التي تختبئ خلف قناع الحبّ والوِدّ، أرفع رأسي لأجدني تحت ضبابٍ مخيف، أحرّك جسدي وإذ به مكبّلاً بخيوط اليأس والحصار: لا مفرّ، سوف نقتل أَمَلك ونميت أحلامك..”
- ماذا تريد يا عَيان؟
“أريد النّجاة.. أقسم أنني لا أريد سواها طالما حييت.. دعوني أنجو من تلك الخداعات التي تضيق بي حتى آخري. أريد الذهاب إلى حيث أنتمي، حيث يحبّني الجميع لذاتي لا لشيء آخر..
أريد أن ألتقي بذلك الشّخص غير الخياليّ، ذلك الذي يُحكى عنه فقط في الروايات العالمية..”
- إلى أين طريقك يا عَيان؟
“طريقي حيث قلبي رغم الخراب الذي يسبّبه لي.. إلّا أنه طريقي الوحيد بعد عيناي..
كلّما ضلّ قلبي أرشدته عيناي، وكلّما تاهَت دلّها قلبي.
أمّا إن كنت تسألني عن وجْهَتي.. فأجيبك يا سيّدي بأن وجْهَتي السّماء، وجْهَتي الأكوان، النّجوم، الكواكب، الفضاء، الأحلام.. وجْهَتي حيث يأخذني قلبي أيضاً يا سيدي، وحيث تدلّني عيناي، أودّ يا سيدي أن أتّجه في طريق لا أكون فيه عَياناً مهمّته الإجابة..”
- من تَصْحب معك يا عَيان؟
“أصْحَب شغفي وشغاف قلبي، أَمَلي وآمالي، روحي وراحة لُبّي..
أصْحب دموعي لأُشفى من عذاب الفقد، وصَوتي لأنجو من ضياع ضميري، أصْحَب قلقي لأعاقبني عند تقاعس هممي، أصْحَب إيماني لأقوّيني، وأصْحَب دعاء أمّي لأُغذّي فؤادي.. أصْحَب يا سيدي خيباتي ومرات خذلاني كي لا أكرّرها وأحفظها وأتعلّم منها..
أصْحَب يا سيدي أسئلتي التي أجوب البلاد باحثاً عن أجوبة لها”
- قلتَ إن عمرك أربعٌ وثمانون حقيقة وألف اعتراف وخمسٌ وثلاثون خيبة يا عَيان.. حدّثني عن بعضهم..
“عندما علمت أن الشّتاء يهطل من السّماء وليس من منخل الطّحين الذي تستخدمه أمّي، وأنّ قطتي التي ضاعت في الشّارع المجاور هي ماتت لكنّ أمّي أخفت عنّي موتها كي لا أحزن..
حقيقة أنني عندما أضع سنّي الذي خُلع في صغري تحت وسادتي لم يُبدّل بخمس ليرات! بل أن أمّي وضعتها لي كي أنسى ألم خلعه..
وأنّ المدرسة ليست بيتنا الثاني! وهي أقسى الحقائق التي واجهتها في حياتي..
- والاعترافات..؟؟
أعترف أنني كذبت على معلمتي في الصّف بوفاة جدتي وخالة أمي وجارتنا وعمّ أبي وأنّ أمّي قامت بالعديد من العمليات لأنني أمقت مادة التاريخ التي تعطينا إياها ولا أحبّ كتابة وظيفتها..!
وبعض الاعترافات التي مررت بها كانت على هيئة:
“أعترف بكُرهي للاستيقاظ في السّاعة السّابعة صباحاً لأحصل على سكبة حساء تدفئ معدتي المتجمّدة.. أو: لأرى مديري المنافق في العمل..”
“أحبّ سوريّا وأكره مخيّمات اللاجئين”
“أكره الصحفيين والمصوّرين لأنهم التقطوا صوراً لأخي وهو يبكي”
“لا أعرف ما هو المنزل.. خُلقت في زاوية هذا الصف وأدعوه منزلي منذ تلك اللحظة”
“لم أرتدي يوماً كنزةً جديدة.. كل ما أرتديه هو ملكٌ لأشخاص آخرين ملّوا من ملابسهم فأعطونا إيّاها”
“أحبّ الجنازات لأنني أتناول فيها فطائر الجوز الشّهية التي لا أتناولها في أيّام عاديّة”
……
- حدثني عن تلك التي تتفوّه بها وتقول عنها خيبات.
“كنت بائعاّ للورد، ولم يُهدني أحداً وردة قط!
قُدّر لي أن أرسب في عامي الجامعي الأول، وأصدقائي أصبحوا في السّنة الثانية من اختصاصات مختلفة..
نُسيت.. هُجرت، واستُبدِلت بآخرين يمكنهم أن يكونوا معهم في وقت المحاضرات..
خاب ظنّي حينما صدحت حنجرتي بأصوات عديدة وعبارات قوية.. وقوبلت بالصدّ!
عندما ذهبنا إلى منطقة بعيدة لنحتمي فرُفضنا من قبل ساكنيها..
بعض الخيبات كانت على هيئة سفر، هجران بلا سبب، فقدٌ قسريّ، وخيانة ناتجة عن فتور مشاعر، بعضها ناتجٌ عن موقف، وبعضها عن تجربة..
أكبر خيباتي عندما حُرمت من الكلام، من الدراسة، من العمل، من الحبّ، من الأصدقاء. خيباتي كثيرة.. قلباً وقالباً، كثيرة وقاسية لا أستطيع الإفصاح عنها كي لا أتألّم من جديد..
أرجوك كُفّ عن الأسئلة!
أريد أن أصمت، تعبت من الكلام الإجباريّ، تعبت من وظيفتي، ومن دقّات قلبي المنهكة.. أريد الذهاب إلى النوم أرجوك..”
خذوا عَيان إلى النّوم..
وليكن نومه إلى الأبد..
رُفعتْ الجلسة.
_________________
“عَيان هو إنسان لا يملك اسماً أو رقماً أو هويّة.. إنسان تائه في الحياة، لا يملك شيئاً فيها سوى الحقائق والاعترافات والأجوبة والتّجارب..
هو قصّة كلّ إنسان عايَش الحرب وأيّامها المريرة، قصّة كلّ إنسان عاش مع الخذلان والخيبة
وهُنا.. يدور حوار بين عَيان وبين أحد المحقّقين في هذه الحياة ليروي لنا عَيان قليلاً من تفاصيل حياته..”