لوحة خاصة

اعتدتُ على الاستيقاظ باكراً بسبب الحرّ الشّديد، ولكن في ذلك اليوم استيقظتُ على بدايةٍ جديدة.

راقبتُ نظراتِ إخوتي التي تُظهِر كلَّ ما يجولُ بداخلهم… القلقُ المُخبَّأ تحتَ ثباتِهم… الحزنُ المُتغلغل في ابتساماتِهم المودّعة… الدَّمعاتُ التي نزلَت بصمتٍ على وجناتِهم السَّمراء.

في الأمس ودَّعنا والدي في سفره إلى الخارج، واليومَ يودّعونَنا، نحن المسافرون إلى الدّاخل.

ودَّعتُ كلَّ ما استطعتُ من بيتي، ” حوشنا ” الكبير والعريشتَين المحمَّلتَين بعناقيد العنب المتشابكة، غرفةَ المونة … ركني البارد ومخزنَ سعادتي المليء بالبطيخ، ذلك البطيخ الذي يعني لي اجتماعاً عائلياً مليئاً بالضّحكات والأحاديث.

الصُّورةُ العائلية… تلك المعلَّقة بصدر بيتِنا منذُ أكثرَ من عقد، ودَّعتُها بعيني وقلبي ووددتُ لو حضنتُها، ولو أمكنَني لكنتُ خبَّأتُ كلَّ من فيها داخل أوردتي… علَّ ذلك يخفّفُ الخوفَ من عدم رؤيتِهم مجدَّداً… وكان كلُّ ذلك يمنعُني من النَّظر خلفي بعد أن انطلقَت سيارتُنا مع حقائبنا إلى ذلك المكان المجهول.

وصلنا إلى محطّة الانطلاق؛ وأمامَ باب البولمان، يودّعُنا أخي ويوصي أمي بنا بكلماتٍ حفرَت في ذاكرتي كلُّ حرفٍ منها. طالَ الطَّريقُ لأكثر من أربعين ساعةً من الخوف والتَّرقُّبِ والأفكار، اكتشفُت حينَها كرهي الشَّديدَ للسَّفر الطَّويل…

“ركّاب حمص الحمد لله على السلامة”

صوتٌ يقطعُ صدى أفكارِ رأسي، ويدفعُني للنُّزول إلى تلك السّاحة الغريبة عني، أتساءلُ في رأسي: هل وصلنا حقّاً؟، هل هذا المكانُ يستحقُّ كلَّ هذا العناء؟

أقلَّتنا سيارةٌ بالأجرة إلى منزلٍ استأجرناه، الطَّريقُ وملامحي تتبدَّلُ مع كلّ حيّ نمرُّ به، غريبةٌ عليَّ رؤيةُ حمصَ أمامَ عيني، لا على نشرات الأخبار، منازلٌ قديمةٌ من الحجر الأسود، أبنيةٌ عالية لا تقطنُها إلّا العصافير، تَليها مدينةٌ مزدحمةٌ مليئة بالأبنية المأهولة وأسواقٌ مكتظّةٌ بالناس الغريبة عليَّ، حينَها ظننتُه مروراً قصيراً لن يتكرَّرَ وسيبقى مشهدُ هذه المدينة غيرَ مألوفٍ بالنّسبة لي.

وصلنا إلى المنزل ووضعنا كلَّ ما حملناه على الأرض لنرتميَ مُنهكين… وبتلك اللَّحظة، عرفتُ أنَّ حياتي الجديدة قد بدأت!

لازَمَني الخوفُ أينما ذهبت، حالةُ عدم الانتماء كانت تتملَّكُني، عندها علمتُ معنى الاغتراب وفهمتُ ما يعيشُه أبي ولكنَّ الفرقَ بيننا، أنَّني لم أتخطَّ حدودَ الدّولة.

لحسن حظّي بعد فترةٍ قصيرة التحقتُ بمدرسةٍ ذاتِ مستوى عالٍ في التَّدريب المهني؛ حقَّقتُ الشُّروطَ وقدَّمتُ لهم كلَّ الأوراق الرَّسمية المطلوبة، وبداخلي حماسٌ لطريقي الجديد الذي اخترتُه طواعية.

تفاصيلُ أوّل يومٍ دراسي ما زالَت محفورةً في ذاكرتي؛ صعدتُ الحافلة ورحتُ أحفظ الطَّريقَ وأضع نقاطَ علامٍ لأستطيعَ تمييزَ طريق العودة في حال أخطأت، فأنا ما زلتُ غريبةً في هذه المدينة.

وصلتُ إلى المدرسة وقامت الموجّهة بإرشادي إلى الصَّف: “الطّابق الثاني القاعة الأولى على اليسار”، صعدتُ وأنا أعدُّ خطواتي، وصلت إلى باب القاعة، أخذت نفساً عميقاً، أصواتٌ كثيرة تنهالُ على سمعي، أطرقُ الباب وصوتٌ من الدّاخل يجيبُني: “تفضّلي”، عمَّ الصَّمتُ في القاعةَ واتَّجهَت الأنظارُ نحوي، أخبرتُهم بأنَّني طالبةٌ جديدة وسألتُ لو كان بإمكاني الدُّخول، حصلتُ على الموافقة وراحت العيونُ تتبعُني في كلّ خطوةٍ كنت أخطوها نحو مقعدي الفارغ، عرَّفتُ عن نفسي من ثمَّ انشغلتُ بما معي من أقلامٍ وكرّاساتٍ محاولةً تجاهلَهم، لكنَّ اختلافي لم يسمح بتجاهلِهم لي، فلهجتي المختلفة عنهم كانت أحدَ التَّفاصيل المتعبة؛ كلَّما نطقتُ كلمةً يردّدونها من خلفي وكأنَّهم روبوتات تحبُّ الاستِهزاء.

عدتُ إلى المنزل بملامحَ باردة وأنا منهكةٌ جسدياً ونفسياً، سألتني أمي عن يومي وأخبرتُها بأنَّه جيّدٌ لا بأسَ به، وراحَ هذا اليومُ يتكرَّرُ ويتكرَّرُ حتّى باتَ فصلي الدّراسيَّ الأوَّلَ بأكمله.

تعزَّزَت غربَتي في كلّ مرّةٍ كنت أمشي فيها في الشّارع وأرى ملامحَ الناسِ غيرِ المألوفة، وفي كل مرّةٍ كان يعيدُ أحدُهم الكلامَ من بعدي ويضحكُ ساخراً بعدما أتكلَّم.

نقاطُ العلام أصبحَت بديهيّةً في الفصل الثاني، لذلك أتيحَت لي فرصةُ النَّظر إلى الوجوهِ الأخرى في الباص، هناك حيث تعرَّفتُ إلى ذلك الوجهِ المشترك في المدرسة أيضاً؛ صديقتي التي تحملُ نفسَ اسمي ولا تعيدُ الكلامَ من بعدي، بفضل تلك الرَّحلات اليومية في الباص تجرَّأتُ على المُضيّ قُدماً واكتشافِ حمصَ أكثر.

لم يبخلِ السُّوقُ المسقوف بجعلِ حمصَ مكاناً مريحاً؛ تصميمُه التُّراثيّ، سقفهُ المميز، المحالُّ التّجارية وأسلوبُ عرض البضائع وتنوُّعُ ألوان الأقمشة، وحتّى جملةُ: “تفضَّلي عنا بضاعة جديدة”، التي كانت بمثابة ترحيبٍ لي في هذه المدينةِ لا محاولةَ تسويقية.

مع الأيّام أصبحَ السُّوقُ المسقوف صِلةَ الوصل بيني وبين رُكني الذي وجدتُه في هذه المدينة، بيتٌ عربيٌّ قديم بروحٍ جديدة يملأه الفنُّ بأشكاله، فيه وجدتُ نفسي، وجدتُ آية.

بدأَت أعمالي التَّطوعيةُ ونشاطاتي الفنية تزدهرُ؛ أوّلُ معرضٍ لي لم يكن تجربةً سعيدة، مع ذلك لم أتوقَّف عند هذا الحدّ، وكلُّ تجربةٍ فنيّةٍ كانت تعطيني دفعةَ جرأةٍ نحوَ التالية، لأنَّها كانت فرصةً لتُعلنَ عن وجودي هنا.

كان الانتقالُ بين الأحياءِ يعزّزُ حالةَ عدم الانتماءِ بعضَ الأحيان، لم تكن تمضي مدّةُ ستّةِ أشهرٍ إلّا ونحن ننتقلُ لمنزلٍ جديد… تكرارُ هذا الأمر حرمَني من فرصة تعليق أعمالي على الحائط، أو الاستقرار… هكذا حتّى استقرَّت رِحالُنا في المنزل الحاليّ عند الجامعةِ، المنطقةِ المتوسّطة في حمص، رغم أجارِه العالي إلّا أنَّنا وجدنا الرّاحةَ والاستقرارَ فيه.

اليومَ؛ مؤمنةٌ بأنَّ هذه الأماكنَ والطُّرقاتِ والوجوهَ التي قطعَت في رأسي وعبرَت أمامَ عيني، كانَت حافزاً لأكتشفَ نفسي، أعرفُ من أنا حقيقةً، الغريبةُ والمنتميةُ لهذا المكان بكلّ دمارِه وازدهارِه، حتّى بِتُّ أخافُ التَّعلُّقَ بكلّ ذلك… كيف يمكنُ للمرءِ أن يعيشَ الخوفَ والشَّجاعةَ في آنٍ واحد؟

لقد كانَ كلُّ ذلك حينَ رسمتُ لوحتي الخاصة… الممزوجةَ بحالةِ الاغتراب، ودموعِ الوداع، ومشاعرِ الشَّوق، وحماسِ التَّغيير، ورؤيةِ الفنّ والاكتشاف، وحبّ الانتماءِ والحصول عليه.