لونٌ أخضر عشبي، قماشٌ جديد، صوتٌ مرعب، ركضٌ وغشاوة ضوئية.

كنت في الصَّف الثّامن، في ذلك اليوم الرَّبيعي من شهر آذار ٢٠١٥ حين انتهيتُ من كتابة وظائف المدرسة، وخرجت للمشي داخل الحيّ مع أمي وخالاتي…

كنت أعتقد أنَّه يومٌ عادي، لكن في ذلك اليوم تغيَّرَت حياتي تماماً، تغيَّرت دون عودة… كان الصَّوت مخيفاً، إنّها قذيفة! ركضنا جميعاً بعكس اتّجاه الصَّوت، وحين توقَّفنا في الشّارع الفرعي، أخبرتُ أمي أنَّني لا أستطيع تحريك يدي، رفعَت كمَّ الكنزة الخضراء، فسال كلُّ الدَّم المحبوس داخله، كما لو أنَّه شلّال، شلّالٌ أحمر يهاجم ثيابي الخضراء، لقد اخترقَت يدي شظيّةٌ كبيرة ناتجة عن القذيفة التي سقطت للتَّو.

لم تتوقفِ السَّيارات من أجل إسعافي… الرُّعب والهرب كانا سيدي المكان، لكن خالتي لم تستسلم وألقَت بنفسها فوق إحدى السّيارات المسرعة لكي تجبرها على إسعافي إلى أقرب مشفى.

عقلي كان يرفض استيعاب ما يحدث، وتحوَّلت الرُّؤية إلى ضبابيةٍ مع غشاوةٍ ضوئية، وغبتُ بعدها عن الوعي…

هل كان كابوساً؟

فتحتُ عيني، لأجدني داخل سريرٍ في مشفى، ربَّما هو منام، منامٌ مؤقَّت… غبتُ مجدداً عن الوعي، رأيت خيالات أهلي وأساتذتي في المدرسة يزورونني، يقتربون ويبتعدون دون أن أعيَ ما يحدث حولي… بعد أن صحوت، أخبروني أنَّ شظايا القذيفة أصابت يدي وتسبَّبت بقطع شريانٍ ووريدٍ بها، حاول الأطبّاء عبر العمليات إصلاح الضَّرر، لكنَّ النتيجة لم تكن شفاءً تامّاً، إنَّما عجزٌ بنسبة 30 بالمائة في اليد اليمنى…

قال لي الأطباء إنَّ نجاتي معجزة، لولا لهفة خالتي لإنقاذي بأسرع وقت، كنت متُّ دون أن يتمكَّنوا من إيقاف نزيفي الغزير.

لم أصدّقهم! لم أصدّق أنَّ يدي ستبقى هكذا… ستشفى، ستشفى كما تشفى ركبتي حين الوقوع أثناء لعب كرة القدم، وسيلتئم هذا الجرح، المسألة فقط مجرَّد وقتٍ ويمضي ويعود كلُّ شيءٍ كما كان.

كلَّ صباحٍ كنت أحاول تحريكها، أرفض تصديق أنَّها لن ترجع كما كانت. بقيت في المنزل حتّى موعد الامتحانات، كنت أهرب، أنكر الواقع، وأختبئ من الجميع، شعرت أنَّني انتهيت… وابتعدت عن المجتمع ٤ سنوات، كنت فيها أشبه بشخصٍ ميتٍ، يدرس قليلاً ويعيش بلا أيّ دافع.

لكن؛ هل يمكن لجملة أن تغيّر واقعي؟ الكلمات لا تغيّر بالكامل، لكنَّها تشعل شرارةً كامنة في الدّاخل.

وهذا ما حصل لي… شعرت بذلك وأنا أشاهد برنامجاً تلفزيونياً تحفيزياً عنوانه (منقدر)، قال المقدّم: “لا تنتظر المجتمع يندمج فيك، انت اندمج بالمجتمع”.

جملةٌ بسيطةٌ جعلتني أرى أنَّني أستطيع المحاولة… التزمت بالعلاج الفيزيائي مدّة 3 سنوات، رافقتني الكرة والمطّاطة، كانت الأداة اليوميّة للعلاج، شعرت أن تلك الكرة الصّغيرة صارت جزءاً من رحلتي المستمرّة في تسديد الأهداف في مرمى الصّعوبات.

على صعيد الدّراسة، بذلت أقصى جهدي قبل امتحان الشهادة الثانوية، كنت أدرس ١٦ ساعة يومياً، ودرَّبت يدي على الكتابة بتقنيةٍ محدَّدة، هل سيهزمني الامتحان؟ لا؛ لن أسمح له…

لم أكن يوماً من الأوائل ولا من المتفوقين طوال سنوات دراستي، لكنَّني كنت قد قرَّرت أن أبذل كلَّ الطَّاقة الكامنة داخلي، وبالفعل استطعتُ أن أحقّقَ مجموعاً شبه تام، كنت سعيداً وفخوراً ومؤمناً بقدرتي لأوّل مرّة. تلك الثّقة جعلتني أتمالك نفسي، وأرفض اقتراح النّاس بدخول كليّة الصَّيدلة، وقرَّرت اختيار الطّب بدلاً عنها، أحبًّ الطّبَّ، وسأنجح فيه رغم كلّ ما يقال لي عن صعوبة تحقيق ذلك مع وجود إعاقةٍ في اليد.

لقد كانت الجامعة بدايةً جديدة كليّاً… ساعدتني دراسة الطّب على التَّعرف على كلّ ما يتعلَّق بعضلات اليد وحركة الأصابع، وأين يمشي كلُّ وريدٍ وشريان، بل تحرَّرتُ من الخجل من إعاقة يدي، صرتُ أعرّف عن نفسي وأروي قصَّتي على الفور، وكان قبولي لحالة يدي بوابة قبولٍ لصداقاتٍ واسعة.

وجدتُ نفسي في الأنشطة والتَّطوّع، والعمل كمدرّسٍ خصوصيّ، والتَّخييم في الطَّبيعة مع الكثيرين، بتُّ أؤمن أنَّ لكلّ شخصٍ مفتاحاً يوصله إلى مكامن قدرته، ويجب أن يجده لتجاوز صعوباته.

التَّنافسيّة هي مفتاحي، أدركتُ ذلك حين فكَّرت بكلّ ما حفَّزني وساعدني.

في الماضي كانت مشاهدة كرة القدم مهرباً من مواجهة المجتمع، لكنَّها ألهمَتني مفتاحَ انطلاقتي… أريد أن أربح أمام كلّ من شكَّكَ في نجاحي وقدراتي، أريد أن أربح في النَّجاح بمعدلٍ عالٍ رغم كلّ الظُّروف الصَّعبة، وأن أربح في دخول اختصاص الأشعة، وأن أربح في مباراة رهاني على أنّني سأكون أستاذاً جامعيّاً ملهِماً وقريباً ومسانداً لكلّ طالب، وأن أربح يوماً ما في تطوير استعمال يدي للدَّندنة على العود وسط كلّ من أحب.

في هذه الحرب كلُّنا مصابون… فقدت جزءاً من قدرتي على تحريك يدي، وثمّة من فقد قدمه أو تعليمه أو منزله أو مستقبله أو عائلته… كلُّنا مصابون، لكن لم نيأس من الرّبح في مباريات الحياة.