زهر البيلسان

– ١-

منذ سنين لم يعد لهذا اليوم في قلبي بريقُه المعتاد، ولم يعد يحملُ لروحي سوى الغصّة والوجع.

بتُّ أصلّي بكلّ أنانيَّتي، أن يُحذفَ من تقويم العام، أو على الأقلّ أن يختفيَ ليلُه من عمر الدُّنيا وتقصرَ ساعاتُ نهاره.

ساعاتٌ أقضيها وراءَ زجاج نافذتي، أتسوَّلُ من عيون المارّة دعماً لهشاشتي، وأحلم أن أسمعَ كما في الماضي، الهمسَ الحنون لمؤامرة رجليَّ الصَّغيرَين، وهما يتَّفقان على اختيار هدية عيد الأم.

أعاتب أشجار البيلسان أمام منزلي، كيف تزهر ولا تعبأ بكلّ هذا الغياب؟! وهي الشّاهدةُ على كلّ ما جرى ويجري بين جدران هذا البيت، ثم أغفر لها حين أراها تتطاول بحبّ، تبحث عنهما مثلي، خلفَ نوافذ غرفِهما الحبيبة في الطّابق الثاني.

شاركَتنا ترتيبَ حقائب السَّفر، وابتسمَت لي بخبثٍ حين رأتني أعيدُ فتحَها وتفريغَ محتوياتها وترتيبَها من جديد عشرات المرّات، خلسةً عن عائلتي.

حقائبُ السَّفر التي حملَت معها أحلامي وآمالي، وأنا أغلقُ للمرّة الأخيرة سحّاباتِها المتعبة.

لم أنكر يوماً حصّةَ الحياة من ولدي، ولم أنوِ أبداً أن أسرقَ حقَّها بهما، ولكن لم أتوقَّع أن تنتزعَهما من دفء جناحي باكراً جداً، فتهرمَ روحي في الخامسة والأربعين، رغبةً بانتشالِهما من حربٍ رمَت الجميع بين الجزر والمدّ لأمواج الحيرة.

نحتضن أولادَنا ونبقيهم قربَنا، فنَقيهم نارَ الغربة واللُّجوء، أو نسعى بكلّ ما أوتينا من قوةٍ لنبعدَهم عن قلوبنا إلى صقيع تلك البلاد البعيدة؟

الخياران قاسيان، وأحلاهُما علقم.

فرحة القبولات الجامعية، مغلَّفةٌ بالقهر.

راحة الوصول بالسلامة، مجبولةٌ بدموع الخوف من المجهول.

ألم عمليّاتِنا الجراحية، زوجي وأنا، البسيطة جداً، والصَّعبة جداً، دون لمسة أصابعهم الغالية أو قبلةٍ على جبين مشتاق.

حلوى الأعياد المغموسةُ بمرارة البعد.

أخبار التَّفوُّق والنَّجاح التي خنقَت زغاريدي المرسلة عبرَ جهازٍ تافه، وحرَّرَت مشاعرَ سجنَها طويلاً، أبٌ يدَّعي القوَّةَ رأفةً بضعفي، ولا يعلم أنَّني أشاركهُ دموعَ وأرقَ لياليه بصمت.

هذا الأب الذي عانى مبكراً من آلام الظَّهر، والذي كان يضحكُنا جميعاً، حين يقول مازحاً: (ما عاد شيل هم جرة الغاز، عندي تنين رجال).

لم نكن نعلم، أنَّ إنجابَ ذكرَين في عائلةٍ واحدة، في هذا المكان من العالم، سيضعُنا كما وضع الكثيرين، على نصل سكّينٍ حاد، لا خيارَ أمامَنا إلَّا أن نبتعدَ عنه، إن أردنا النَّجاة من إرغامنا على خوضِ حرب، داخلُها قاتلٌ أو مقتولٌ أو مسلوبُ الرُّوحِ والأمل، إن بقيَ حيّاً.

– ٢-

حين قرَّرنا قبلّ الحرب بيعَ بيتنا القديم لإنشاء بيتِنا الحالي، بيتِ الأحلام (كما كنّا نُسميه)، استغرقَ رسمُ المخطَّطات الهندسية قرابةَ العام، ونحن ننقل جدرانَه من مكانٍ إلى مكان، ونغيّرُ التَّفاصيلَ والألوان، وكم من اللَّيالي شاركَتنا هذه المخطَّطاتُ أسِرَّتَنا، وصبغَت عرقَنا بحبرِها.

كيف لا؟ وهو بيت العمر، بيت عائلتنا الصَّغيرة التي ستكبرُ مع الحفيدات والأحفاد.

البيت الذي بنيناه على أربع سنوات، وصار بعد انتهائه فرجةً للأقارب والأصدقاء، وهو الذي رغم وُسعِه، لم يكن يكفي أحياناً لنوم الجميع براحة، فأراهم صباحاً وقد ملؤوا حتّى الكنبات الصَّغيرة بأجسامهم الشّابة، أمازحُهم قائلةً: (يحرق حريشكون على هالريحة، افتحوا الشبابيك).

لو كنت أعلم بالقادم، كنت خبَّأتُ روائحَهم الحبيبة عطراً ثميناً، وكنت لملمتُ الشَّعرَ المتساقط على وسائدهم الملونة، وحكتُ منه وشاحاً يدفئ جليدَ غيابِهم.

– ٣-

أحسُّ بالخدر يسري في ساقي، أترك نافذتي وبيلساناتي، أسحب كرسيّاً، وأجلس إلى طاولة المطبخ.

لم تعد تغريني هذه الطَّاولةُ رغم جمالِها، باتَت تكفيني وزوجي زاويةٌ صغيرةٌ منها، نصفُ المساحة أو أقلُّ، نتناول طعامَنا عل عجلٍ، ونترك باقي المساحة للغائبين.

– ٤-

يخطر في بالي فجأةً، أنَّ مواسمَ المؤنة اقتربَت، وربَّما بدأَ الفول والبازلاء يغزوان الأسواق، أهزأ من نفسي، ماذا يعنيني ذلك؟ ومن أجل من؟

لكن، ماذا لو منحَتنا إحدى الدّولُ شرفَ لقاء أولادِنا على أراضيها؟ (يمكنكم وضع كلمة شرفٍ بين ملايين الأقواس) نعم، ربَّما، من أين آتي بالمؤنة وقتَها؟

الفكرةُ أيقظَت سباتَ ذاكرتي، سأملأ خزائنَ مطبخي بما يحبّان، وسأنتظر بفارغ الصَّبر موسمَ المكدوس، سأصنع الكثيرَ منه لأنَّه المفضَّل لديهما، مع الشنكليش والقريشة الكبيس (قريشة تيتا، هكذا نسميها في عائلتنا).

تيتا؟ هي أمي، الغائبة أيضاً منذ سنةٍ ونصف، والتّي كان رحيلُها النَّفسَ الأخير الذي أفرغَ روحي، وسرق من هذا العيد لحظاتِه الجميلة.

زرعتُ بعد وفاتها شجرةَ سروٍ صغيرة، سمَّيتُها باسمِها، مريم، أكلّمُها وأعلّقُ على أغصانِها الفَتيّةِ تعبي وشكواي، سأنقلُها هذا الصَّيفَ إلى بستان بيتنا الرّيفي، وسأستودعُ بين يديها، شجرتَي الجوز اللَّتين زرعَهما زوجي باسم ولدَينا، فادي وورد، وسأخبّئ لهما باكورةَ الموسم الأول، عشرَ حبّاتٍ لم نقوَ حتّى الآن على تذوُّقِ إحداها.

– ٥-

أنهينا بناء بيتنا الرّيفي صيفَ ٢٠١١، كانت القذائفُ حينها تهلكُ نهارات حمصَ ولياليها، ولذلك بدأتِ العائلاتُ بالعودة إلى قراها، طلباً للأمان والرّاحة، ومثلَ الجميع فعلنا، ربَّما تصبح القريةُ مكانَ إقامتنا الدّائم، ولذلك ( شدينا الهمّة) وأنجزنا كلَّ شيءٍ بالسّرعةِ القُصوى، ناسين أو متناسين كلَّ ما يحدث خارجَ حدود هذا المكان الهادئ.

– ٦-

(إي، وهلأ شو؟)

هذا البيت الجميل، بسقفِه القرميد المُبطَّن بالخشب، وبحجارتِه الزَّرقاء الحنونة رغم خشونة سطوحِها، وبأرجوحتِه الخشبية المتمدّدة برشاقةٍ، بين شجرَتَي زنزلخت… يفرح بالجميع، إلّا بهما، وأفرح بضيوفي، وأفتقدُهما.

أتصنَّعُ الصَّبر، وأشكر اللهَ أنَّهما بخير، وأنَّنا نعيش تحتَ نفس السَّماء، شمسُنا واحدةٌ، وقمرُنا واحد.

أشكر الله، لأنَّ فادي وجدَ البقلةَ التي يحبُّ، في صناديق الخضار في ألمانيا، ولأنَّ ورد أخبرني بسعادة، كيف تتربَّع حلاوةُ الصَّفوة الحمصية- صديقةُ طفولتِه- على رفوفِ المحالّ العربية هناك.

يا الله… كم صغرَت أسبابُ سعادتنا!!

– ٧-

عدتُ أستنجد بنافذتي، وقد اقتربَ هذا اليومُ المتعب من نهايته، تهتزُّ أغصانُ البيلسان أمامي، وألمحُ بين اخضرارِ أوراقها صبيةً تسرقُ زهوري ، أبتعدُ قليلاً كي أدعَها ترتكبُ جريمتَها بهدوءٍ وسعادة.

رنّةُ الجرسِ أجفلتني ، أفتحُ الباب، لأفاجَأ بالصَّبية نفسِها، تحملُ باقةً من ورودي البيضاء، تقدّمُها لي قائلة: “كل عام وأنت بخير، هدول من فادي وورد، فيني ضمك بدالن ؟”