كم مضى من الوقت على آخر مرّةٍ تصرَّفتُم فيها على سَجيَّتكم؟ أو تكلَّمتُم بطريقةٍ عفويّةٍ خالية من المجاملات والتَّصنُّع، يرافقُ بَوحَكم الصّدقُ، الصّدق فقط؟

الآن، أنا سأفعل ذلك، وسأمنح الحريةَ لقلمي، ليكتبَ قصّةَ فَقدي ووجعي، قصّةَ الخوف والانتقال قسراً من الطُّفولة إلى النُّضج.

كنت أخاف النَّومَ وَحدي في غرفةٍ مستقلَّة، فألجأ كلَّ ليلةٍ إلى المساحة الأكثر أماناً في الدّنيا، على سرير أمي وأبي، أتنفَّس بطمأنينةٍ ودفءٍ روائحَهما الحنونة.

إلى أن اقتحمَت هدوءَ حياتنا ليلةٌ مشؤومة، بعثرَت رياحُها بقسوةٍ الجدائلَ الجميلة لصبيةٍ صغيرة في الثانية عشرة من عمرها.

مثل كلّ يوم، كنت أنتظر وأمي عودتَه من العمل، أصغي بتركيزٍ للأصوات على سلالم البناء، حتى أسمعَ خلخلةَ المفاتيح المعلَّقة على عروة بنطاله، يخفق قلبي بشدةٍ كلَّما اقترب الصَّوت أكثر، وتزيد حماستي، أضع أذني على الباب، وأفتحه بعد لحظات، لأراه يدَّعي المفاجأةَ ويفتح ذراعَيه ويحتضنُني بحبّ، ويعطيني حصّةً من تعبه اليومي، كيساً من المأكولات المُحبَّبة عندي.

يستعدُّ للعشاء بابتسامته التي لا تفارقه رغم تعبه الشَّديد، ثم يجلس قُربي وينتظر كلانا الطَّعامَ اللَّذيذ الذي تحضّره أمي، وكالعادة، يتوجَّه بعد ذلك إلى المطبخ لتحضير قهوته المسائية قبل خلوده إلى النّوم، فأستغلُّ لحظات الصَّفاء وأسرع إلى مكاني الآمن على سريرهما وأغطُّ في نومٍ عميق.

نوم عميق أيقظه بعد عدّة ساعاتٍ صوتُ أنينٍ مُخيفٍ سرق بعنفٍ أحلاميَ الوردية في الواحدة صباحاً.

(أخ قلبي) صوت أبي يتألَّم ويصرخ، ووجه أمي الخائف وهي ترتدي ثيابَها على عَجَل، وتبحث بجنونٍ عن هاتفها الخليوي، اتصالاتٌ عديدة لا جدوى منها فالجَّميع نيامٌ في هذا الوقت من اللَّيل، مشهدٌ لن أنساه ما حَييت.

“أبي ماذا بك، ما الذي يؤلمك؟” سألتُه ماسحةً دموعاً أعمَت عيني، وأنا في طريقي إلى المطبخ لإحضار كأس ماء، عاد معظمُه إلى راحة كفّي الصَّغيرة وأنا أحاول أن أسقيَه، فمسحتُ به وجهَه علَّني أُبعد عنه بعض الألم.

ينظر إليَّ ويقول لي: ” عطيني بوس” بلهجته التي أتوق لسماعها من جديد، لم أكن أعلم أنَّها قبلة الوداع، ولكن ربَّما كان يعلم، وهو يحاول احتضان وجهي بجفون عينيه وأنا أمسح بعشرات المناديل عرق ألمه.

“الله يخليك ساعدني، أخوك تعبان كثير ، جيب أختك وتعو “

قالت أمي وانهارت عاجزةً على طرف السَّرير.

وصل عمّي وعمَّتي مع سيارة الإسعاف، وضعه المسعفون على نقّالة، خارَت قواه واستسلم لهم أبي البطل بسهولة.

توجَّهوا نحو المشفى الوحيد المحتوي لشاغر، المشفى الذي يكرهه أبي، والذي يحمل بين بياض جدرانه ذكرى سوداءَ مؤلمة، ففيه مات أحد أصدقائه.

على باب العناية المركَّزة تجمَّعنا، منتظرين خبراً يطمئن قلوبنا، ويقوّي خيط الأمل الواهن، الذي قطعه نهائياً خروجُ الطَّبيب بوجه باردٍ، قائلاً “البقيّة في حياتكم”

خدرٌ مؤلمٌ تسلَّل إلى ساقي، ورماني أرضاً، غضبٌ… حزنٌ… غابت كلُّ أصوات العالم، إلّا أصوات الصُّراخ والهلع.

“يا الله” طلبتُ العون، كي أصلَ إليه، لم أقوَ على النُّهوض، انتقلتُ زاحفةً لأراه مغمض العينين، راقداً في سباتٍ عميق، أقبّله القبلة الأخيرة.

أمامَ دموع أمي وحزنها الذي جمَّد تفاصيل وجهها الجميل، وأدخلها في حالةٍ من الذُّهول اللّانهائي، أركع وأقول: “أمي، لن أتركك، لن أتخلَّى عنك، بقينا وحدنا الآن، سنواجه العالم معاً” لا أعلم من أين أتيت بمثل هذا الكلام أظنُّ أنَّها قوّةٌ بالفطرة.

النَّعوات طُبعت، وتحضيرات العزاء لم تستغرق سوى بعض الوقت، ليت الفرح يُصنع بسهولةٍ هكذا.

البارحةَ كنتَ هنا، والآن أنت هناك، بضع ساعاتٍ فرَّقتنا، ورمتنا في عالمين بعيدين، فارقد بسلامٍ يا أبي.

مرَّ شهرٌ على الوفاة، بدأ الضّعف ينال مني، ويجعلني الغياب عرضةً للحياة وقذاراتها.

فأثناء زيارةٍ لبيت العائلة، وأنا أقف أمام المرآة أسرّح شعري، دخل الغرفة وأغلق الباب بهدوء، “ماذا تريد؟” قلت، لم يُجِب، واكتفى بمدِّ يده أسفلَ ظهري، ودفعني بعنفٍ إلى باب الخزانة.

صاعقةٌ حرقت روحي، تحجَّرت عيناي لتأخذني إلى ذكرى مماثلة، منذ سنتَين تقريباً، في العاشرة من عمري، كان يجلس قربي ويلقي بكلامٍ “علميّ تنويريّ” يحدّثُني عن علاقاته المختلفة مع عدّة فتياتٍ وبكلّ تفاصيلها، داعماً كلامه بالإشارات والتَّعابير- لإيضاح الأمر- حسب قوله، صمتُّ خائفةً، مات الكلام في حنجرتي، وأنا أراه يستبيح جسدي، ويتلوّى كثعبانٍ مفترس، يتنقَّل بوحشيّةٍ بين أجزاء جسدي الصَّغير الذي لم يكتمل نموُّه بعد، وسط ذهولي وخوفي، “ماذا يحدث؟ هل هذه لعبةٌ ما؟ فكَّرتُ، استجمعتُ قواي، وحاولتُ دفعه،” ابتعد عني “خرجَت من شفاهي، وخرج معها ما تبقّى من نفَسٍ محبوسٍ في صدري منذ بدء- اللُّعبة-” هل يجب أن أتكلَّم، أن أخبر أحداً، ومن سيصدّقني حينها، أنا الطّفلة ذات الأعوام العشرة؟ “.

أدخل إلى المطبخ لإرواء ظمأي بكأسٍ من الماء البارد بعد الكثير من اللَّعب بالخارج، لأتفاجأ به خلفي يسمح ليديه البشعتين بالالتفاف حول خصري الضَّئيل ليسحقَه، ويلصقَه بجسده الضَّخم السَّمين، ويقول:” أتشعرين؟ ” ” أشعر، بماذا أشعر؟ “

لا شيءَ سوى الخوف يملأ قلبي، فينتفض داخل صدري، يكسرها ويكسر روحي، تلطم وجهي الذّكرياتُ وتعيدني إلى اللَّحظة…

غابت ملامحه خلف سيل دموعي، دموعي التي كانت الوسيلة الوحيدة للاحتجاج، والتي أثقلَ مِلحُها لساني، وانتشر إلى جوفي، غيرَ آبهٍ بما سبَّبه من جفافٍ ويباس … ما زال يحدّق بي، فيسرق مني القدرة على الشُّعور بالوقت، أهرمُ خلال بضع دقائق، ليخرج من المطبخ تاركاً إيّايَ مشلولة الفعل ومشلولة القول.

لم يعرف أحدٌ، استمرَّت حياة الجميع بشكلٍ طبيعي، وسط ندوب روحي النّازفة دائماً.” لو عرفوا، لو أخبرتهم، ماذا سيحصل؟ ستُدفن القصّةُ حِفاظاً على سمعة العائلة، وقد تُبرَّرُ فِعلةُ هذا الذَّكر الذي ولد، وكلُّ الأفعال مُباحةٌ له “قلت لنفسي.

إلى متى؟

أنا الآن فتاةٌ في التاسعة عشرة من عمرها، تلملم جراح الماضي، تتحدّاها، تحاول صنع امرأةٍ قويّةٍ قادرة على المواجهة والعيش كما تستحقُّ، تحلم دائماً وتسعى لجعل الأحلام حقيقةً، على أمل أن تُسعدَ والدَها في السّماء، وأمَها على الأرض.

لا أطلب الكمال، ولكنّني أسعى لامتلاك سعادتي يوماً ما، وهذا البَوح يساعدني، يخفّف عن أيامي بعض أثقالها المتعبة، وقد يبعد مرارة تجربتي عن صغيرات هذا العالم، وعن صغاره أيضا…