2022/10/18

حمص- بيت الآغا

صوت تصفيقٍ حار، إضاءةٌ موزَّعةٌ بشكلٍ مثاليّ على الكادر والجمهور والحضور، وكلّ موسيقيّ يقف خلف آلته، والجميع يقف أمامهم… ألوانٌ كثيرة، وضحكاتٌ ودموعٌ، وأحضانٌ متبادلة، ومشاعر هائلة تغمر كلَّ الفسحة السَّماوية التي تسقف المكان… يقف الفريق بأكمله على خشبة المسرح، يبتسمون ابتسامة الإنجاز والفخر والحب، 1,2,3… التقاط… لقد كان آخر مشهدٍ من ذلك الحدث، ولكنَّه حتماً لن يكون الأخير.

حمص – منزلٌ عربي قديم

بعد ثلاثة أعوامٍ من ترميم هذا المكان وتهيئتِه ليكون جاهزاً كمساحةٍ آمنةٍ وحرّة وخلاقة للإنسان بجميع فئاته وأعماره… كانت المشاهد المليئة بالحبّ كتلك؛ متكرّرةً ومتجدّدةً بذات الحبّ بل وأقوى.

مرَّتُك الأولى في دخول المكان ستذهلُك بكلّ ثقة، وإن تركنا المجال للمكان ليحكي لك عنه، فسيكون الحديث كالتالي:

مرحباً… أنا هارموني عمري 70 عمراً من الإنسان، و7 أوجه، و16 دمعة…

حجارتي سوداءُ قديمة، يبلّلُها المطر في الشّتاء، والدّموع في الوداعات والسّفر، والضَّحكات العالية عند الإنجاز والنَّجاح، أبوابي مصنوعةٌ من أحلام الشَّباب وعرقهم وجداري من الأعلى مصفوفٌ بأيديهم وعيونهم ورؤيتهم، والنَّوافذ تم تفصيلها لتطلَّ إلى الساحة الخارجية والعالم كله.

في السّاحة ترى الكثير من الورق الأخضر الذي يتسلَّق الحجارة السَّوداءَ خاصَّتي، وشجرة اللَّيمون التي أجهل كم عمرها… لكنَّه كثيرٌ وكثيرٌ جدّاً، ولا تملُّ في كلّ موسمٍ أن تعطيَ أزهارها وثمرها وأن تملأ المكان برائحة الزَّهر، ومقابلَ شجرة اللَّيمون ترى العريشة، أكادُ أجزم أنَّها أكثرُ شجرةٍ مقاوِمة في المدينة، قاومَت كلَّ سنين الهجر الذي عاشها المكان، قاومَت النَّسيان، والبرد، وظلَّت تغطي الحائط بورقها الهندسي المميَّز، وقاومَت الحرب التي اقتلعَت جذور العديد من البشر والشَّجر، إلّا شجرة العريشة، وبعض من البشر… بقرب تلك الأخيرة تجد وردةً جورية زهريّة اللَّون، يتيمةً ووحيدةً ويابسة؛ لكنَّها كانت كذلك، أمّا الآن فتشعر أن أهلَها جميعُ الورق الأخضر المحيط بها… تشعر في تلك السّاحة أنَّ لا مكانَ لليتم أو الوحدة، الجميع هنا يحبُّك ذلك الحبَّ غيرَ المشروط

يمكنك أن ترى الفنَّ عند عتبات الغرف، وقبضات الأبواب، والطَّاولات وجميعَ ما قد تم وضعه في الزّوايا… حتى في المطبخ… هناك الكثيرُ من الحبّ والدّفء في المطبخ…

في كلّ زاويةٍ من المكان هناك ذكرى، وضحكةٌ وسرٌّ، يعتبرُني أولادي مكاناً لأسرارهم وضحكاتهم ودموعهم، يعتبرُني الجميعُ هنا المعنى الحرفيّ للفسحة السماويّة التّي لا تحجبُ بينهم وبين الحرّية والأمان شيء.

لقد خذلَتني الحربُ وأطفأت جزءاً من روحي عندما أخذَت مني ستّة عشر ولداً من أولادي… أولادي الذين قاموا ببنائي ورووا عطشي وجفافي في أيّام هجراني القاسية… لكنَّهم معي… كلُّ من ذهب منهم بقيَ داخلي إلى الآن وفي كلّ آنٍ… يمكنك رؤيتهم في حيطان غرفة الرَّسم، والنَّحت، والمكتب، والمقهى، في كلّ لونٍ وخطّ وكلمة، عند باب المطبخ وفي حوض المليسة والعريشة، في سقف المكتب وخشباته، وبين الكتب المَصفوفة بعناية… يمكنك أن ترى أحلامَهم وأمنياتهم في كلّ زاويةٍ مني… لقد وهبوني كثيراً من وقتهم وفكرهم وحبّهم… لقد أحبُّوني كثيراً وأحببتُهم أكثرَ من ذلك بكثير.

لقد شهدتُ أيضاً كثيراً من النّزاعات والمشاكل والآراء المتناقضة، لكن دائماً ما كان الحبُّ في هذا المكان جامعاً لكلّ ذلك وجامحاً ليصل إلى اللّا حدّ من الاتّفاق والحقيقة… الحقيقة والحقيقية هي ما تميّزُ كلَّ ما يتمُّ صنعُه وإنجازه وتقديمه إلى النّور.

لقد رأيتُ النُّور عندما حوَّلَني أحدُهم من الخيال إلى الواقع، ومن الحلم إلى الحقيقة، وأنت لا تدري كم يكلّف الإنسان أن يحلم في هذه المدينة… يكلّفُه الكثير من عمره، أنا صرتُ هذه الحقيقةَ بكثيرٍ من الأعمار والأحلام. أشعر أنَّني ذلك الصَّوتُ الذي يصل الجميعَ إلى العالم، وأنَّني العينُ التي ترى ما لا يراه الغير، وأنَّني الأمانُ الذي يبحث عنه فاقديه… لكنَّني لا أعرف… لماذا كلّ هذا أنا؟

أنادي بالإنسانية وطريقي هو السّلام للجميع، وأحبُّ الإنسانَ وأحضنه بكلّ اختلافاته… ضوئي برتقالي، يمكنُك استنشاق الصَّباحِ داخلي عندما تصعدُ رائحة القهوة وتعلنُ عصافيرُ اللَّيمونة أنَّ الصَّباحَ أتى… وفي المساء يكون ضجيجُ الجميع هو هدوءك الذي لا تعرف كيف ذلك! كيف يمكن للإنسان أن يهدأ وسط ضجيج العديد من الآخرين؟

لقد قاربتُ على إتمام الأربع سنواتٍ من عمري… ينوي الأولاد أن يقوموا بتحقيق وجهٍ جديد لي، أرى من خلاله النُّور، ويراني عن طريقه العالم… أروي قصصَ الناس التي أطفأتها الحرب، والمرض، والموت، والحياة، أحاول أن أبثَّ الحياةَ في تلك القصص وأصحابِها، أريد للكون أن يعرف أولادي، وأحلامَهم وأن يسمع أصواتَهم وصمتهم وكلامهم، أن أكون مكاناً للجميع وللحبّ وللسّلام.

كانت الطَّريقُ صعبةً جداً، الكثير من حولي كان يهزأ من الفكرة، وآخرون كانوا يصغون إليها ولكن يعلمون صعوبَتها.

في ليالي الشّتاء القاسية اجتمع الأولاد وعملوا على جدراني حتّى اصطبغَت بلون دمٍ أياديهم من شدّةِ التَّعب والبرد، كنت أحاولُ جاهدةً أن أجعل المكان دافئاً لأقيَهم هذا التَّعبَ لكن… هم من تغلَّبوا عليَّ وعلى الحرب وعلى اليأس وجعلوا المكان دافئاً وأكثرَ بكثيرٍ مما كنت أحلم…

لقد جعلوا المكان رمزاً للحياة ورمزاً للحبّ والأمان.

12/5/2019

حمص – المنزل العربي القديم نفسه

بعد ما يقارب السَّبعةَ أشهر… كانت لحظة إبصار النُّور كانت لحظة الحقيقة والتَّوتر يعمُّ المكان، العيونُ مليئةٌ بالدُّموع بين رهبة الافتتاح وفرح الإنجاز.

أهالي هؤلاء الأولاد يجلسون في كلّ زاوية، وعيونُهم تلاحق حركات أبنائهم وتسمع أصواتَهم المرتجفة…

لحظة العدّ التَّنازليّ كانت جدراني شاهدةً عليها كما شهدَت على كلّ التَّعب والعرق…

3… 2… 1 واشتعلَت شرارةُ الافتتاح واشتعلَت قلوبُهم معها ودموعهم… كانت تلك اللَّحظةُ لحظةَ تحوّلٍ حقيقيّ في داخلي وداخلِهم… فتحوَّلتُ من ذلك البيت المهجور إلى أكثر بيتٍ يعجُّ بالحياة…

لقد شهدَت على تحوّلِهم في تلك اللَّحظة من الأولاد إلى الشَّباب، لقد قفزوا على سنوات العمر بلحظةٍ، لقد صنعوا المستحيلَ وضمَّدوا جرحاً من جراح هذه المدينة… ذلك اليوم لم يكن يوماً عاديّاً أبداً للجميع، كان يوماً ليس عادياً …. على كلّ المدينة حقاً..

منذ ذلك اليوم استمرَّ الزُّوار بالمجيء إليَّ على مدار أسبوعٍ بطريقةٍ تشبهُ الخيال.

أنا وجدراني وأولادي لم نتوقَّع هذا العددَ من الزُّوار، وهذه الحياة والثَّناء والإيمان بنا وبطموحاتنا وأحلامِنا… نعم كانت تلك اللَّحظةُ تحمل الكثيرَ والكثير من التَّحوّلات… تحوّل نظرات المجتمع وقتَها من ماذا تفعلون؛ إلى هنيئاً لكم على هذه الرُّوح… نحن معكم ونريد منكم أكثر وأكثر.

لقد فعلناها معا… لقد حوَّلنا غبارَ الحرب إلى ألوان وموسيقى وحب.

لقد صنعنا من عرقِنا ودماء أيدينا مساحةً آمنة… صنعنا الحقيقة! حقيقتَنا أنَّنا شبابٌ لا يموت مهما قسَت عليه الحياة.