– انزل من السيارة، أنت مطلوب احتياط.

الجملة التي غيرَت حياةَ الشّاب العشرينيّ، ونسفَت أحلامَه، كما نسفَت أحلامَ مئات الشّباب.

على الحدود قيلَت تلك العبارة، حدودٌ لم تكن مجرَّدَ خطٍّ متعرّجٍ رُسمَ ذاتَ طمعٍ بين بلدَين، بل كانَت فاصلاً بين ماضٍ مليءٍ بالأحلام والعمل، مُفعمٍ بالحبّ والإيمان وبالقدرة على جعل الأحلام حقيقة، وبين واقع مُثقلٍ بالأسلحة والقتل، وبكلّ وجوه الكراهية وأشكال الموت.

تبدّلَت وتغيّرَت حياتي، ودخلتُ قوقعةَ الحرب، بعقلٍ تصارعَت داخله الأفكار بقسوة؛ هل أحمل السّلاح وأقاتل، تلبيةً لنداء وطنٍ غالٍ؟ أم فقط، لأنَّ الحرب تصنع من سجينها قاتلاً؟

هذا التّحول السّريع بالأصوات حولي، من صوت أمواج البحر تحثُّني على المضيّ قُدماً، وتصفّق لقدرتي على بناء المستقبل… إلى صوت الرَّصاص يمزِّق جمال آمالي، ويغذّي قدرتي على القتل!

تحوّلٌ مجنونٌ لا صلةَ للمنطق به…

تمضي الأيام، وتكبر خساراتي، جسدياً ونفسياً، تطول الحوارات داخلي ويطول جلدي لروحي…

أيّهما أصعب، الحوار العقيم مع الذّات، أم الحوار مع حبيبةٍ لم تعد قادرةً على الانتظار؟ فالطَّريق طويلةً، لا نهاية لها…

وسط كلّ هذا، تولد فكرة التَّخلي والهروب، فكرة الاستسلام وإعلان الهزيمة.

البندقية تعاتبني: تذهب وتتركني؟

الدّبابة تؤنّبني بحب: ألا تخاف علينا؟

الرّفاق، شركائي في هذا العالم الضَّيق: قدَّر الله وما شاء فعل.

نعم، قدّر الله وما شاء فعل، لم أهرب يوماً، ولن أهرب الآن.

بعد كلّ معركة، كنت أشكر الله وأفرح لنجاتي، أفرح؟! أي فرحٍ، وأي نجاة؟ وسط لعنات هذه الحرب!

في كلّ نجاة، أودّع عدداً من رفاقي، أحزن وأبكي لرحيلهم، كيف لا؟ وأنا الذي تقاسمتُ معهم الجوع والعطش، والمرض والبرد، ولحظاتِ الخوف والشّوق… وكلُّ ذلك من أجل ماذا؟! أقول لنفسي.

قذيفةُ مدفعيةٍ معادية في ذلك اليوم البارد، سقطَت قريباً جداً، غرسَت شظاياها الهلعَ في قلوبنا، وأصمَّت أذنيَّ إلّا عن صراخ رفيقي: “دخليك يا الياس ، لا تتركني، وصلني لأهلي”

الشَّظيّةُ اخترقَت فخذه الأيمن، الدَّمُ يتدفَّق بغزارة لم أستطع إضعافها بما تيسَّرَ لي من خرق بدلاتنا العسكرية، ضممتُه إلى صدري، فأسند رأسه مستسلماً لوجعه، وهمس: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله”

بين يدي أسلم روحه، أغمضتُ عينَيه بأصابع مرتجفة، هذا المسلم بين ذراعيّ هذا المسيحي أسلم روحه، نعم الوحدة الوطنية والأخوّة والمحبة مواقف حقيقية.

انتظرتُ قليلاً، هدأتِ الأصوات، كان الدَّمُ قد صبغَ يدي وثيابي، وبلَّلَ ترابَ الخندق الذي احتوانا.

ما العمل الآن؟ هل هكذا تُروى بدم الشّهداء ترابُ الأوطان؟

عاد حواري مع نفسي يأكلُ دماغي.

لملمتُ ما استطعت من قِواي، وعجبتُ كيف لم يذهب هذا المشهدُ الفظيع بعقلي، كيف تركّزَ تفكيري حول وصية رفيقي (وصلني لأهلي)، كيف سأتمكَّن، أنا، مريض (الديسك) من حمل هذا الجسد الشاب، لتنفيذ الوصية؟؟

قوّةٌ ما تغلغلَت فيَّ، المحبة أو الوفاء، لم أعلم، حملتُ الجسدَ بين ذراعي، تسلَّلَ الصَّقيعُ إلى بدني رغم حرارة الدَّم الذي بدأ عبقُ قطراته يرسم الطَّريقَ إلى أهله، بين غابات الزَّيتون في إدلبَ الخضراء.

خمس سنين، والمرارةُ تحصد حلاوة كلّ شيء، وحرقة الفقد تجلد العمر بسِياطها… أيّ حياةٍ هذه؟ وأيّ إنسانٍ أنا؟ هل ما زلتُ صالحاً للعيش؟

ينهشني حِواري كما العادة.

بعد فشل عدّة محاولاتٍ من الموت للنَّيلِ مني، أحسستُ به قُربي، مع توقف قدمي اليُسرى عن الحركة، توسَّع فتقُ القناة اللّبية ، فأصابني بالضَّعف والعَجز، وصار رفاقي في الخدمة سندي الوحيد لقضاء حاجاتي الخاصة، أنا البعيد عن رعاية الأهل في مثل هذه الحالة.

عبثاً حاولتُ الحصول على إحالةٍ للمشفى العسكري، الذي بات الوصول إليه بالنسبة لي حلماً، لا أطاله إلّا ميتاً، لتخرج جنازتي من هناك ملفوفاً بعلم الوطن الذي أموت فداءً له.

من قال لكم إنني أريد الموت، أنا أحبُّ الحياة، الحياة في الوطن وليس الموت فيه…

كانت حجتهم لمنعي من مراجعة المشفى، أنَّ الجميعَ يدَّعي المرض، ولكن أقسم أنَّني كنت صادقاً. أمام التَّدهور السَّريع لصحّتي، ضعفت مبادئي، فطلبتُ العون من أحد المعارف، ونلتُ حقيَّ في العلاج.

العملية الجراحية الإسعافية التي أجريت لي، أنقذَتني من شللٍ دائم، في رجلي، وفي حياتي، وكانت السببَ في إعادتي إلى الحياة المدنية.

بدايةٌ جديدة، بروحٍ ضعيفة، وقلبٍ مكسور، وذكرياتٍ قاسية كما الموت، لم تمنعِ اللَّشمانيا من الهجوم عليَّ بشدةٍ، ليكويني علاجُها بجرعاتِ الآزوت كَيّاً، توأماً لكيّ الحرب… هذه الحرب التي سرقت عشرَ سنواتٍ من عمري، بعيداً عن الأهل والأصحاب والأقارب، عشتُ بينهم غريباً بعد عودتي، وكأنَّني قادمٌ من قارّةٍ بعيدة.

شابٌّ في الثّلاثين، لا يملكُ شيئاً، ولا شيءَ يعوض ضعفَه وألمه.

بدايةٌ جديدة لحياةٍ ليس فيها من الحياة إلّا اسمُها، يأسٌ واكتئابٌ وقهر.

ثم ماذا؟ قلتُ لنفسي، ثلاثون سنةً، ماذا يعني ذلك؟ هل هي نهايةُ العالم؟ هل هي نهايتي؟

لن أستسلم بانتظار الموت، سأقف في مواجهة الدّنيا، ومعها عند الحاجة، قررتُ؛ سأجمع كما في صغري، الحجارةَ التي تُعيقُ طريقي، وسأبنيها سلَّماً تتسلَّقُه نحو القمّة أياميَ القادمة، سأمسحُ عرقَ الهمّ، وأبرّدُ قلبيَ المتعب بعرق الأمل.

ولذلك، اتَّخذتُ أول خطوةٍ عملية لترميم قدراتي، وانتسبت لدورة لغة إنكليزية، أتبعتُها بدوراتٍ عدة (دورة حاسوب، دورة قيادة، تدريب على التَّواصل، وتدريب على بناء السلام).

تقدَّمتُ أيضاً إلى الجامعة، حلمي القديم، وتطوَّعت في مجال العمل الإنساني… إلخ.

أفخر بنفسي، هذا أنا الياس الحقيقي، أحبُّ الحياة، أكره الموت، وإن كان قدراً، سأحبُّه وسأصنع من سواده قيامةً جديدة.