عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ
وجبَ التَّنبيه، هذه القصّةُ لا تمتُّ للخيال بصلةٍ
وأيُّ تشابهٍ مع قصصٍ أخرى، هو مدعاةٌ للحزن والأسى
المشهد الأول “نهار ملكي”
ها هو الصَّباحُ يبدأ، لا جديدَ فيه، غرفتي الوردية، المزيَّنةُ بغبار لعبِ من هم أكبرُ منّي بالألعاب النارية طوالَ اللَّيل، أسمعُ صوتَ العصافير، أغمضُ عينايَ بشدّة، أعلمُ أنَّهم يحضِرون ملابسي، أنَّني أميرتُهم وهم وصيفاتي، تدخلُ والدتي الغرفةَ لتوقظَني، تظنُّ أنَّني لا أعلم أنَّ عصافيري أيقظَتها وطلبَت مساعدتَها.
تقتربُ مني وتقبّلُ جبيني وتقول ” يلا أميرتي فيقي لنروح عل روضة”، ابتسمتُ، علمتُ أنَّ نهار الملكة يبدأ، جلستُ ليحضرَ فطوري، لفافةُ الزَّعتر الملكيّة، مع نصفِ تفاحةٍ اقتُطعَ منها الجزءُ الغامق اللَّون، ودونَ أن تنتبهَ والدتي، تسلَّلتُ من ورائها، وسرقتُ ذلك الجزءَ، لأنَّني أحبُّ الأشياءَ الغامقة، المعتمة، التّي تشبهُ عَينيّ أبي.
بعد أن أنهيتُ التَّحضيرات، وقفَت أمي مُحذّرةً العصافيرَ بحدّةٍ “نحنا منطلع عل مدرسة يمكن نرجع ويمكن لا”، فهمتُ أنَّها تأمرُهم بإنهاء وجبة الغداء الملكية الخاصة بي.
وتحملُني كأميرةٍ، وهي تُخبّئ وجهي بيديها حتّى لا تعرفَني السّاحراتُ الشّريرات.
وتبدأ الألعابُ النّارية بالانطلاق، فرحاً بنزولي إلى المدرسة، وتبدأ معه أمي بالرَّكض، أشعر بدقّاتِ قلبها، أسمع صراخَ عقلِها، تتبدَّدُ ملكية النُّزهة.
تنكمشُ أطرافي، تبدأ دموعي النُّزول، تلمع أضواءُ الألعاب النّارية أكثرَ فأكثر،
وفجأةً، أرى الألوان من جديد، “وصلنا” تقول أمي
تقبّلُني وتهمسُ في أذني “كوني منيحة أميرتي” وتضعني أرضاً.
ومع بكاءِ وصريخِ قَريناتي، أدخل مع أصوات الأبواق، زاحفةً على السّجاد الأحمر، أصلُ إلى عرشي البُّني، ويرنُّ الجرس.
المشهدُ الثاني “لحاف سحري”
سعالٌ، ضبابٌ كثيفٌ، ترابٌ يملأ المكانَ، ماذا يجري؟
أشعرُ نفسي أطير، أين أنا؟
تصبح الرُّؤيةُ أوضحَ، أنا بين يدي أمي، نجلس عندَ باب المنزل، أنظر حولي، لماذا كلُّ شيءٍ يحاول الهرب؟
النَّوافذُ والأبواب تستغيثُ المساعدة.
نجلس في المدخل، أنا وأختي على قدميّ أمي بجانب أبي، ما زالَ الاستيعابُ غائباً، أعدتُ النَّظرَ حولي، ينقصُني شيءٌ ما، صرختُ “فوفو” بحثتُ عن لعبتي صاحبةِ الأقدام الكبيرة كأقدام جدّي، لم أجدها حولي، صرختُ مرّةً أخرى “فوفو ولحافي السّحري”، ينظرُ والدي في عيني، ويذهب زحفاً، ليعودَ بعد عدّة دقائقَ ومعه فوفو ولحافي، سعادةٌ غامرة، ألُفُّ نفسيَ وأختي باللّحاف، إنَّه درعُنا، ملاكُنا الحارس، كما تقول جدتي.
تتوتَّرُ والدتي فجأةً، يجاريها بالحدث صوتُ إطلاقِ شيءٍ ما، شيءٍ قريب، تغلقُ أذنَيها بسبابَتَيها، وتخبرُنا بحنانٍ “تعو ماما نلعب لعبة سكروا أدنيكن وقولوا اااا” بعد ثوانٍ، وبابتسامةٍ عريضةٍ تبشّرُنا بنجاحِنا في اللُّعبة، تسألُ أختي “بس أومي شو هاد الصوت؟ كتير بخوف” تقربُ والدتي رأسَها لتَضعَه بين رأسَينا وتهمسُ “جارتنا الجديدة اسمها قذيفة وبدها تلعب معنا لعبة جديدة اسمها النجاة” يقاطعُها أبي “ليش عم تستخدمي هي الكلمات، حرام عليكي، ولاد”، تنظرُ والدتي إليه، ودموعُها لا تتوقَّفُ عن الهطول “وعدت حالي من وقت يلي عرفت اني رح صير أم ما خبر بناتي غير الحقيقة” بحزمٍ تقول “، نظرتُ في عينيّ أمي، شعرتُ به، تريدني أن أربحَ، رأيتُ ذلك التَّحدي، وقرَّرتُ بمساعدة فوفو ولحافي السّحري، أنَّني سأنجو، ودونَ سابقِ إنذار، يعود ذلك الصَّوتُ من جديد، أمسكتُ أقدام فوفو وأغلقتُ بها أذني، فتحتُ فمي حتّى ظهرَت لوزتي.
اليومَ لن نموتَ، اليومَ سننجو.
المشهد الثالت” الغميضة “
أدخلُ المنزل، محمَّلاً بأكياس الخضار، تقترب زوجتي لمساعدتي، تلقي نظرةً سريعة على جارنا، تشكرُه وتدعوه على الغداء، تغلق البابَ وتلحق بي، خائفةً، يخرج صوتُها بصعوبةٍ” صار معكن شي عل طريق؟ جارنا لونو متل الليمونة “أجيب بالنَّفي وأقاطع حديثَها بسؤالي عن كم الوقت الذي يحتاجُه الطَّعامُ حتّى يجهز، تصمتُ، تنسحبُ بهدوءٍ، وأبقى وحيداً، أرفع رأسي، وأوجهُه إلى السَّقف، أسمع أصواتَ أطفالي من الدَّاخل، تكّاتُ السَّاعة، يتقلَّصُ قلبي،” حاسس كأنو بلاطة عصدري، لا يوجد تعبير اقوى يستخدم لوصفي.
هل ما سمعتُه صحيح؟
هل أظلم نفسي بتخيُّلِ المشهد؟ أم أظلم الواقع؟
أعيش اللَّحظة مرّةً تلوَ الأخرى.
جاري وهو يمسكُ ساعدي ويترجّاني للعودة.
هل هي رغبتي بأظهار شجاعتي بإكمال الطَّريق؟
أم عدم رغبتي بالعودة إلى منزلي خالي اليدين؟
يتكرَّر كلام جاري مرّةً أخرى في رأسي “صار قدامنا في كتير جثث خلينا نرجع”، أسأله هل المتاجرُ مغلقةٌ، وأكملُ مَسيري، وبعد عدّة أمتارٍ، شعرتُ به، ملاكُ الموت، يقفُ على أكتافي، ينظر إلى لوحتِه الفنّيةِ بفخر. أشمُّ رائحتَها، دماء.
يقتربُ مني جاري، ويدفعُني لمتابعة المسير، بصمتٍ تامّ، نحضرُ طعامَنا ونعود، عند العودة أسألُه “لماذا أكملنا الطَّريق؟”، شعرت بعَينِه تنظرُ إلى خاصَّتي، ويقول “ازا ما متنا من رصاصة منموت من الجوع” يضع يدَه على رأسي ويضيف “طلع يا جار احيانا العمى نعمة” يودّعُني، ويرحل، تلمع جملتُه في رأسي، يبدو أنَّه وقتُ الرَّحيل، أقف وألمس الجدرانَ، الأبواب والنَّوافذ، سأبشّرُكم أنَّني سأخيّبُ أملَكم، ليس عندي أيُّ حلّ، سنرحل.
أخبرُ زوجتي بقراري، انتهى العقدُ الموقَّعُ مع الوقت في هذا المكان، لا ذكرياتَ أخرى تولدُ هنا.
وجبةٌ أخيرة نأكل وبسيارة الموتى نخرجُ، لنولدَ من جديد، بذاكرةٍ مفقودة وحنينٍ كبير.
المشهد الرابع “قبلة”
الهواءُ يلعبُ مع شعري، عنقي يتنفَّس، أشعّةُ الشَّمس تداعبُ وجهي، وتطبعُ على وجنتي، قبلةً، هواءٌ نقيٌّ لا غبارَ فيه، ولا بارود، أبكي، أريدُ أن أقفز، هل يناسبُ هذا عمري؟
تحضنُ يدي يدَ زوجي، أنخفضُ، أقبّلُ أطفالي، وأهمسُ لهم بجميع كلماتِ الحبّ التي أعرفها.
شهيقٌ زفيرٌ، أشعر بالحياة من جديد.
ندخل منزلاً جديداً، نوافذُه مفتوحةٌ، شراشفُه نظيفة، نأكلُ وجبتَنا الأولى، نجلس بجانب النّافذة، الصّديقة القديمة، دونَ خوفٍ، أجلس ولأوّل مرّةٍ منذُ زمن، أرى أحلامي قبلَ النَّوم حتى.
هذه هي الأفكارُ الأولى التّي راودَتني عند معرفتي أنَّني سأتركُ منزلي، التّابوتُ الذي صُنعَ خصّيصاً للذين يريدون الحياة، من يعيشون ويتغذّون على …. الظَّلام ، للذين ينامون لأنَّهم يهربون وليس للمتعبين.
نظرتُ إلى زوجي وسألت: “شو رأيك ندق على بيتنا القديم”، بهدوءٍ يوافق، طلبتُ الرَّقمَ وانتظرت، لم أكن أدركُ الأمانَ الذي سأشعر به عندما لم يجب أحدٌ، ولكن هناك من مجيب!، الأمانُ تبخَّرَ برَدٍّ من تسعِ كلماتٍ “لا تخافي أختي، نحن بس سحبنا الخط، بيتكن بأمان”، ارتعبتُ، هلعٌ شديد، أحدُهم اقتَحَم عالمي.
أحدهم يشاهدُ ذكرياتي، يأكل على طاولتي، ويشرب من كأسي.
أحدهم أعطى لنفسِه الحقَّ بأن يدعوني أختَه، وبأن يجيبَ على مكالماتي.
لم أكن أعلم أنَّ الذي أدعوه تابوتاً هو نفسه القفصُ الذَّهبي الذي لا أريدُ إلّا الموتَ فيه.
سأعود، سآخذ ملابسي وأغراضي، ألبومَ صوري، سأسرقُ فنجاني وكتابي المفضل، إنّها لي، إنّها أنا.
وأعود، أضعُ مفتاحي بالقفل، وإذ به لا يدخل، ليأتيَ غريبٌ ليفسّرَ قائلاً: ” طلعي خدي مفتاح بيتكن من فوق”، صمتُّ، أصعدُ وبكلّ أدبٍ، أقرعُ الباب، ليخرجَ رجلٌ يشبه شرشبيل في قصص أطفالي، يعطيني المفتاحَ ويضيف: “لا تطولي، زيارة سريعة ورجعي المفتاح”، أدخل، وكالضَّيفة أُستقبَلُ في منزلي، أسلّمُ على ساكنيه، أقبّلُ النَّوافذَ والجدران، ماذا سآخذ؟
وضعتُ في حقيبتي فوفو ولحاف ابنتي السحري، كُتيّبَ القصصِ القصيرة الخاصَّ بابنتي الصغيرة، مزهريةً أهداني إيّاها زوجي لم يرى ألوانَها يوماً.
أعدتُ المفتاحَ لصاحبِه واستودعتُه منزلي وخرجت.
وفي طريقِ العودة، أقتطفُ وردةً، وفي المزهرية الطّافحة بماء دموعي، أضعُها وأدفنُ حياةً، ثم أظلُّ هنا، أراقبُ الخطوةَ التي لا تتأخر لحياةٍ في طريقها إلى عدمِها.