اللّحن الذي أحبّ، والصّوت الذي أعشق.. فيروز
“يسعد صباحك يا حلو” صدى الكلمات يملأُ شرفتي وقلبي، رائحةُ القهوة تستحضر ذكرياتي.. أنظرُ إلى صغيري علي من الخارج، غارقٌ في النَّوم على غير عادته، الآن الثامنة صباحاً، ساعتان مضَت على استيقاظي، جلستُ فيها مع أزهاري، صور الذّكريات تهبط من مكانٍ بعيد، لتقاسمَني أجواءَ الصَّباح المحبّبة لتأخذني في رحلةٍ إلى الماضي، إلى فنزويلا، أنا وزوجي واثنين من الأبناء، “فادي” ذو الأربع سنواتٍ، و “علي” سنتان ونصف، أيامُنا كانت جميلةً ولطيفة، خفيفةً كموسيقى فيروز.
أكثر ما كان يجمّل أيّامي هذان الصَّغيران، اللّذان اجتمعا برابطٍ أقوى بكثيرٍ من مجرَّد رابطة دم.
أذكر حتّى الآن ذلك المساء جيداً، حين أخبرني زوجي بفشل صفقةٍ تجارية كان جزءاً منها، خسرنا معها الكثير من المال، ليبقى القليل، والقليل لم يكن كافياً لننجو في غربتنا مع هذه المحنة، يومها وبعد نقاشٍ حادٍ أخذت قراري في البقاء إلى جانب زوجي، وقدّمتُ التّنازلَ الأكبر حين أُجبرتُ على إرسال ابني فادي مع عمّه إلى سوريا، وقد اعتقدتُ -خاطئةً- أنّي بهذا أخفّفُ عنا بعض الأعباء.. وياااالها من حماقة.
ها نحن في المطار..
علي وفادي..
قبلة الوداع.. وعناقٌ أخير وطويل…… لم تمرَّ تلك اللّيلة بسلام……
أستيقظتُ ليلاً على صوت نحيبٍ، أهرول إلى غرفة الأولاد، لأجد علي نائماً في سرير أخيه، متمسّكاً بشراشفه وكأنّها كنزه الوحيد، حرارته تتجاوز الأربعين، تعاركتُ معها حتّى الصّباح، ثم استسلمت أمام محاولة هزيمتها فأخذته إلى طبيبة العائلة التي جزَمَتْ بكونه عارضاً صحيّاً سيذهب بعلاج بسيط.
ولكن ماحدث كان العكس تماماً. فقد ازدادت حالته سوءاً، تنخفض حرارته يوماً لتعاودَ الارتفاع في اليوم التالي، بقينا على هذه الحال ما يقارب الأسبوع، عندها طلبَتِ الطَّبيبةُ منّي إحضار فادي معي لتفحصه، لربَّما كان مرض علي هو مجرَّد عدوى التقطها من أخيه، فأجبتها بأنّ فادي ذهب إلى سوريا، عندها قالت بعتبٍ: أنتم العرب ترتكبون الأخطاء وتطلبون منا إصلاحها!
بعد مرور أسبوعين على حالة الطَّوارئ التي تسمّى (وعكةً صحّية) أعلنّا انتهاءَها بعودة علي إلى روضته، وهنا أدركتُ أنَّها لم تكن مجرَّد معركةٍ صغيرة مع القليل من الحرارة، وإنَّما هي حربٌ في بداية طريقها، حيث أخبرتني المعلمةُ أنّ علي لا يقبل الدُّخول إلى صفّه ويمضي وقته في صفّ أخيه، كما أنَّه شاردُ الذّهن، لا ينصاع لتوجيهات المعلّمات، قليلُ الأكل والكلام، أصبح يميل إلى العنف ولاحقاً امتنع عن الكلام نهائياً، وأنهَتِ المعلمة تقريرها بأنَّه يتوجَّبُ عليّ استشارة أخصائيّ سلوك.
لحظتَها؛ ووسط كلّ المشاعر التي انتابتني، وشعوري بالخوف وعدم استيعابي الكامل لخطورة الوضع، أنكرتُ إحساسي وأقنعتُ نفسي بأنّ كلَّ هذا ما هو إلّا صدمة عاطفية سيتجاوزها مع الوقت والكثير من الحبّ الذي سنقدّمه له أنا ووالده.
لكنَّ الوضعَ كان يزداد سوءاً يوماً بعد يومٍ ويخرج عن سيطرتنا، هنا بدأتْ رحلتنا الطَّويلة التي استمرّت قرابة السّنة والنّصف بين مخابر التَّحاليل والأشعّة، الأطباء والجمعيات.. لم أترك باباً إلّا قصدته، لكن دون جوابٍ يحسم المعركة لصالح قلب الأم الذي يرفض الرُّضوخ لواقع أن لا جدوى.
بقيت معركتي قائمةً إلى أن وجدتُ أوَّل حليفٍ لي، صديقةً كانت لي (بحجم وطن) كانت معي في كل خطوةٍ من خطوات بحثي واستشارتي الجندي الأقوى، هي من كشَفَتْ لي وجهَ عدوّي عندما اقترحَت بأن نأخذ علي إلى بروفسور يأتي إلى البلاد كلَّ حين، يقدّم كورسات تدريب للأطبّاء حول كيفيّة التَّعامل مع الأطفال الذين لديهم خللٌ سلوكيّ، وبالطَّبع وافقت.
ذهبنا من فورنا إليه، وبعد أن اطّلع على قصّة علي، حاول أن يشرح – بالإسبانية – وضعه الصّحي، ثم خَلُص إلى القول: “ابنك مصابٌ بمرض التَّوحّد”، حاولتُ أن ألتقط بعض المفردات من حديثه وأنا تائهةٌ بين عدم فهمي الكافي للّغة وبين عقلي الذي يرفض أن يفهم أو يصدّق، وتحت هَول المصيبة صرختُ به: “المهم يا دكتور… ما هو العلاج؟” توجَّه إلى صديقتي بالحديث وطلب إليها أن تشرح لي بأن التَّوحّدَ مرضٌ مكتسبٌ، وليس وراثياً، له عدّة أطياف، قد يصاب الطّفلُ بطيفٍ واحد أو أكثر، لكن في النّهاية، ومع الأسف ليس هناك دواءٌ شافٍ، ثم أضاف: علي أصيب بصدمةٍ عاطفية اسمها (الفقد) ثم تابع بالحرف الواحد “أرجو ألّا تحمّلي نفسك وزرَ ما حدث… إنّها إرادة الله”…
توحّد.. فقد.. إرادة الله.. لم تكن تلك كلمات منسجمة بالنّسبة لي، إرادة الله لن تقضي بأن أفترق عن ابني مرغمةً، ليصاب الآخر بمرضٍ لا شفاءَ منه.. لابدَّ أنَّ إرادة الله كانت ترصد لي تدبيراً آخر! إرادة الله كشفت لي عن قدرات أطفالي غير العادية، وأنبأتني حينها بأنَّني لن أكون بعد اليوم أمّاً عادية.
اقترح عليَّ الطَّبيب بأن أعود بعلي إلى الوطن، وإلى أخيه.. خرجت إلى الشارع بقلبٍ ينفطر من الحزن، وعيون لا تبصر طريقها وسط سيلٍ من الدُّموع، تعثَّرت قدمي وأنا أهبط درجات السُّلَّم وكدت أسقط، وإذ بيده الصَّغيرة تمسكني، نظرتُ في عينيه المُغيَّبَتين تماماّ عمّا يحدث، رأيت فيهما أمان العالم، ومنذ تلك اللّحظة قطعتُ عليهما عهدي بأنّي سأصنع من ومع “علي” النّجاح.
عدنا إلى سوريا، إلى الوطن، إلى العائلة، حال وصولنا راح علي يقبّل فادي من قدميه حتّى رأسه وهو يصرخ بألمٍ وحرقة.
بدأنا رحلة المقاومة هنا في طرطوس مع جمعية تُعنى بأطفال التَّوحّد ولكنّها اعتذرتْ عن استقباله حتّى نهاية أعمال التّرميم فيها.. فكانت تلك الشُّهور هي الأصعب فيما مرَّ من حياتي، وخاصّةً أنّي كنت في شهور حملي الأولى.
كان وضع علي يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، يصرخُ بشكلٍ دائم، يكسر كلَّ ما تطالُه يده، يضربني بقوةٍ على بطني.. كنتُ أقفُ أمامَ عدويَّ الغاشم “التَّوحّد” وجهاً لوجه وحيدةً خائفةً دون حليف، بينما يتسلَّح هو”التَّوحد” بعدم تقبّل المجتمع لنا، فيتشبَّث أكثرَ بعلي، ليأخذه مكان فادي الذي غادر عن اهتمام علي كليّاً في تلك المرحلة .
التحق علي بالجمعية في ٢/١٠ ولدت ابنتي في ٨/١٠، كانت الشُّهور الأولى من العلاج أشبه بالموت اليومي، تارةً من الألم الذي يلحق بي، وتارةً من الألم الذي يلحق بطفلي..
كنتُ أنام ويدي موثقة إلى قدم علي بحبلٍ قصيرٍ لأستيقظَ عند أيّ حركةٍ يقوم بها، حتى أمنع احتمال أيّ كارثة، وخاصّةً بعد محاولته مرّةً رميَ أخته من النافذة.
لم أستطِع في تلك الأيّام تناول الطَّعام قبل خلوده إلى النَّوم، مما جعل وضعي الصحيَّ يتراجع جداً، وهنا ظهرت حليفةٌ أخرى، “عمّة علي”، تعاملت مع علي كأنَّه ابنُها، كانت ترافقه في البداية بشكلٍ يوميّ إلى الجمعية، وتُظهر تعاطفاً كبيراً مع مرضه.
ثم قرَّرتُ بعد مدةٍ مرافقتَه أنا عوضاً عنها، كنتُ أحاول التَّعلّم من المشرفات بعضَ المهارات في التعامل معه، وأحاول في البيت أن أزيد عليها، بقينا في هذه الدَّوامة والتَّقدّم البطيء، حتّى تقدم حليفي الثالث.. الحليف الأقوى.
بدأت قصّته باتّصالٍ فَحواه؛ أنّ امرأةً تعرض عليّ تعلُّمَ صُنع أشغالٍ يدوية يمكننا بيعُها لاحقاً في معارض وبازارات أو ماشابه.
الخرز… الحليف الثالث، المرة الأولى التي رأى فيها علي الخرز، نثره في كلّ أرجاء المنزل، أمضيت حوالي الساعة وأنا أحاول لملمة تلك الحبيبات.
عاد وفعلها مرّةً ثانية، وفي المرّة الثالثة أخبرته أنّي عاتبةٌ عليه وتعمّدت أن أبدوَ حزينةً.. عندها فوجِئتُ بردّة فعله، حين أمسك الخيط والإبرة وبدأ يجمع حبّات الخرز بكلّ صبرٍ وتأنّ.
ثم راح يجلسُ مع الخرز لساعاتٍ طوال، يغيبُ فيها عن كل ما حوله، وأنا أراقبه بذهولٍ – ربَّما أتأمَّله- وكأنَّه لوحة فنية، أعطيه كلَّ التَّعليمات وهو ينفّذها بكلّ حرفيةٍ حتى تفوَّق عليّ بمراحل.
هنا أيقنت، أنَّ آخرَ حلفائي كان “توحّد علي”، التوحّد الذي أصبح صديقنا، الرّابط بين علي والخرز، هنا علمت أنَّه مضى وانتهى زمن الصُّعوبات والعجز…
علي تحوَّل مع الخرز إلى طفلٍ هادئ وديع، وأصبح يتخطّى الأهداف الموضوعة في منهج مرضى التَّوحُّد بزمنٍ قياسي.. عام ٢٠١٨ تخرَّج علي رسميّاً من الجمعية واندمج في مدرسةٍ حكوميّة مع أخيه.
جائنا عيد الفطر لأوّل مرّةٍ بعد أن استعاد علي قدرته على الكلام، خطر لي يومها أن أعطي علي صباح العيد “عيديّته” مثل كلّ الأطفال، فما كان منه إلّا أن رمى بالمال أرضاً وراح يصرخ ويلوّح برأسه أنَّه لا يريد.
تركته، ودخلت المطبخ، والألم يعتصر قلبي، رفعت يدي للسماء وقلت: “يا رب، أنت قادرٌ أن تجعل علي يأتي ويعايدني هو لا أنا..” أيقنت في عمق قلبي أنَّ رجائي مستجاب.
صباحَ عيد الأضحى كنتُ أجلسُ في الغرفة مع قهوتي وحيدةً، وإذ بعلي يتقدَّم صوبي يناديني “ماما” ابتسمتُ له: “يا عيون ماما، ماذا تريد؟”، نظر في عيني وقال “كل… عا… م… و… إن… ت، بخ… ير “
حضنته بقوّةٍ، ورحت أصرخ وأبكي حتّى اجتمع أهل البيت على صوتي ليقترب مني فادي ويهدّئني: “ماما حيَّرتينا مو هاد يلي دعيتي الله مشان يصير؟”، لم أفهم حينها ما كان يحاول أخباري، لكنّي اكتشفت لاحقاً، أنَّه أمضى أسبوعين كاملين وهو يعلّم أخاه كيف يقول هذه الجملة، فقط لكي يراني سعيدة.
صغيري فادي، لقد كبَّرتك مأساتُنا قبل أوانك يا سندي..
أعود إلى واقعي على صوت فيروز، لأجد علي مستيقظاً، ابتسمتُ له كما تبتسم لنا الحياة الآن.. علي يبدع في فنّ الخرز، ويرسم على القماش… يصنع تحفاً فنيّةً غاية في الرَّوعة والجمال…
علي تحوَّل من طفلٍ مُعاقٍ بعين المجتمع… إلى منتجٍ فنّانٍ استطاع حتى الآن أن يعول ويؤمّن تكاليف جلسات علاج 44 طفلاً من أطفال التوحّد، تُسدَّد رسومُ جلساتهم في الجمعيات التي ترعاهم في حمص وطرطوس باسم علي، وأدوات رسمٍ ل7 أطفالٍ موهوبين بالرسم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتأمين حقائب وقرطاسية ل 12 طفلاً محتاجاً.
أنا اليومَ وبعد تجاوز هذه التَّجربة المريرة ما زلت على قدر الأماني أعيش، وترسَّخت قناعتي بأنّه مع علي ليس هناك حلم…. هناك طموح.. هناك إنجاز..
الأحلام سبيل الضُّعفاء… أنا اليوم مع “الأزرق علي” أنوي وأحقّق.