تقف أمامَ باب الغرفة فتاةٌ، تنظرُ إلى البعثرة الموجودة، تدور بنظرِها حولَ المكان بانشِداهٍ تام، وصمت..
تصمتُ وتبرد، ومن حولها ضجيجُ رجالٍ.. رجالٍ غريبة وكثيرة ومريبة، وتنهالُ عليها أسئلةٌ كثيرة، وشكوكٌ وظنونٌ غريبة، وكثيرة ومريبة.. وينفضُ رجلٌ سيجارتَه على الأرض، أرضِ المنزل، منزلِ الفتاة ووالدتِها ويدوسُ عليها، وتنظرُ إليه بانشِداه تام وصمت.
يأخذُها رجلٌ الى المجهول ولا أحدَ يعرفُ أين تذهب معه، ولا هي تعرف.. إلى تحت الأرض أو وراء الشَّمس، وتعود إلى الظَّلام، ويؤذّنُ إمامُ الجامع، تعرف حينَها أنَّه الصَّباح، حيث فقدَت توقيتَها؛ مُذْ وقفَت أمامَ باب الغرفة.
تبحثُ عن قطَّتِها، تذهبُ وتعود وتسير وتُسأل أسئلةً كثيرة وغريبة ومريبة، يمضي أسبوعٌ وشهر وأشهر من الأسئلة الكثيرة والرّجال الغريبة والسَّجائر المُداسِ عليها، ومسدَّسٌ أمامَ نظرِها، لكنَّها لم تختَر أن تسرقَه، اختارَت السَّيرَ والصَّمت والبرد.. كلُّ شيءٍ حولَها وبها ولها مُشاعٌ للجميع، في أروقةِ المحاكم وشوارع المدينة وغرف التَّحقيق وسيارة المحقّق ومنازل الأقرباء.. مشاع!
تسافرُ.. تعود وتسافر ويذهب بها التّاريخ، ومنها، تذهب الفكرةُ والحلم والرُّؤية والإبصار.. تركبُ طائرةً وتستعدُّ لركوب طائرة، وطائرتين، وتسمع الأذانَ من جديد، بعد أن فقدَت توقيتَها وساعتَها وكلامها، فقدَت غرفتَها وسريرها وقطَّتَها ونومها، وبقيَت هناك بانشِداهٍ تام وصمت، تقف أمامَ باب الغرفة..
8-7-2022
-ايمت طلعتي من البيت؟ وايمت رجعتي؟
=الساعة 9 وتلت، رجعت 11 وتلت
-مين شفتي عالدَّرج وانت نازلة؟
=ما بعرف ما بتذكر
-ليش تركتي أمك لحالها بالبيت ونزلتي بهاد الوقت المتأخر؟
=اتفقنا ننزل سوا عالسوق لأنو ليلة عيد، سبقتها أنا لأنها كانت صايمة وتعبانة، وعلى أساس تلحقني..
واليومَ، بعدَ أشهرٍ وليالٍ عديدة، لم تلحَق بي أمي.. بل سبقَتني إلى السّماء بفعلٍ وحشيٍّ وقاسٍ، ولم تسمع ندائي لها حين عدتُ أهرعُ إلى المنزل أصرخُ بلوعةٍ ورعب، لكنَّها لم تسمع صراخي أو سمعَته لا أدري، لم تمسح دموعي منذ ذلك اليوم ولم تصنع لي فطورَنا المفضَّلَ أو القهوة الخاصّة بنا.. فقدتُ القهوةَ، والفطور، والصُّراخ، وفقدتُ أمي في ليلة العيد..
لقد قُتلَت أمّي في تلك اللَّيلة، على يدِ طفلٍ لم يتجاوز عمرُه 16عاماً وصديقِه ذو 18 عاماً، بتخطيطٍ من طفلٍ أصغرَ منهما لم يبلغ بعدُ عامَه 13.. تمَّ اكتشافُهم بعد أن تمَّ توجيهُ أصابع الاتّهامِ نحوي في تلك اللَّيلة.. أنا الابنةُ التي تيتَّمَت لتوّها وحُرمَت من أمّها منذ لحظاتٍ وفقدَت أبيها منذُ عامٍ ونصف، يتمُّ الاشتباهُ بها وهي تقفُ أمامَ باب الغرفة!
كلَّما تذكَّرتُ تلكَ الكلماتِ واللَّحظاتِ يخفقُ قلبي خوفاً وغضباً وحرقة، أحاول التَّصديق، لكن أيّ عقلٍ بشريّ أو إنسانيّ قد يصدّق؟ لقد دفعتُ ثمنَ ليلة العيد تلك حياتي كلَّها وعقلي وقلبي، دفعتُ ثمنَها أحلامي وأماني وكلَّ ما أملك، حتّى أكادُ أشعر أنَّني أصابُ بفقدانِ الذّاكرة من هَول الإهانات التي سمعتُها وعشتُها في تلك الأوقات.. لقد أُغتصبَت حياتي وسُلبَ حقّي في أن أعيشَها كما كنت أحلم.. منزلٌ مشمس، ورائحةُ قهوة أمّي وقطّةٌ تضع رأسَها على قدمي بأمان، مدفأةٌ مشتعلةٌ طيلةَ الوقت، وسريرٌ أستطيع البكاءَ عليه متى شأت، وحضنُ أمّي أختبئ به وأهربُ إليه من ضجيج العالم.
12-9-2020
يرنُّ هاتفي وأنا في الصَّيدلية أجلبُ الدَّواءَ لأبي، وأجيب:
=ألو
-عمو انت لحالك أو معك حدا؟
=أصمت قليلاً وأجيب: لحالي
-والله ما بعرف شو بدي قلك يا عمو، العمر إلك..
لقد كنت “لحالي” كثيراً يا عمّو، كانَ الطَّريقُ طويلاً إلى أبي المتوفي لتوّه.. ممرُّ المشفى، هدوءُ الموت وصخبُ الفاجعة، حيث أسيرُ ذهاباً وإياباً بين حيطانِها التي ما زالَت تُرمَّم، وأبكي وأدعي وأفكّر.. كيف سأقول لأخوتي خارجَ البلد أنَّ أبي مات؟ لقد غلبَه الفيروس، أم غلبَه الخوفُ والوحدة في غرفةِ العزل في الطَّابق الثّامن للمشفى؟
كيف يا الله أنا فتاة ال 24 عاماً التي بقيَت بجوار أبيها وأمّها لسنواتٍ عديدة فقط تعيشُ لياليَها وأيامَها دونَ سهراتِ الإخوة وأحاديثِهم ودعمهم؟ كيف ستكون حياتي بلا أب؟ كيف تكون الحياةُ بلا صوتِ التّلفاز ليلاً وصوتِ المفاتيح الذي اعتدتُ في صغري أن أتسابقَ إليه أنا وأخي لنرى ماذا يحمل أبي في يدَيه لنا، لقد وعدتُه قبل وفاتِه أن نذهبَ إلى الحديقة وأن نأكلَ البوظة، لقد وعدتُ نفسي أن أنجحَ كي أجعلَه يفخرُ بي هو وأمّي، لمن سأهدي نجاحي حينما أنجح؟ من سيبكي لي ومن سينتظرُني عند عودتي وأنا أجلبُ البزر الأصفر؟ من سيجلب لي الجلّابَ في رمضان؟ كلُّ ذلك وأنا لحالي في ممرّ المشفى.
16-11-2013
أنا، أبي، أمي، أختي، بعد صراعٍ واشتباكاتٍ في منطقةٍ خارجَ المدينة ظنَنا أنَّها آمنة، يضعُنا أخي وأخي في سرفيس مليءٍ بالناس الهاربةِ مثلَنا إلى وجهةٍ لا نعرفها، ولا نحظى حتّى بأن نودّعَهم أو نعرفَ؛ أين ستذهبُ بهم الأيّامُ بعيداً عنا؟ لقد كانت الحيرةُ والعجزُ تسكنُ عيونَ أبي وأمي، وجهتُه إلى المدينة، وقلبُه في يدي إخوتي الذين لم يتجاوز عمرُهم العشرين عاماً، الانفصالُ والنَّجاةُ بأقلّ الخسائر هو ذلك الهدفُ الذي نسعى إليه في تلك اللَّحظة، لقد كان الكسر الأول العائلي لقلبي.. والغربة الأولى والوحدة والضَّياع والتَّشتُّت لنا.
كنتُ أحلم أن أكبرَ لأتَّصلَ بأخي ويأتي إليّ لنعودَ سويَّاً إلى المنزل، أن أجدَ من يحميني وأتَّكأَ عليه حين تخذلُني الحياة.. وأنا كبرتُ، وخذلَتني الحياة حتّى أصبحتُ الوحيدةَ من العائلة التي تسكن في المدينة بلا شيءٍ تملكُه أو تتَّكأ عليه.
لكنَّه الله.. اللهُ معي في كلّ مرّاتي الصَّعبة تلك ومتَّكأي الوحيدُ حين كنتُ لوحدي، كان الله المناجاةَ الأولى والأخيرة.. أمامَ السرفيس، وفي ممرّ المشفى، وعند بابِ الغرفة.. في سيارة المحقّقِ وغرفة الاستجواب وفوقَ قبر أمي وأبي حيث رافقتُهم إلى مثواهم الأخير، لقد كان صوتي يصل إلى سماءِ الله السابعة، وصوتُ قلبي المنكسر يتجاوزُ كلَّ الحواجز بيني وبينه، أنا واثقةٌ أنَّه سمعَني وأنَّه سينقذُني.. كنت واثقةً به حدَّ الاستسلام، وإلى اليوم، أنا مستسلمةٌ لله ولكلّ ما يعطيني إيّاه ومؤمنةٌ به.
بعدَ موت الأب والأمّ، تسقط أمامَك كلُّ هموم الكون ومصاعبِه، وترتفعُ عندَك كلُّ عتباتِ الألم حتّى الخدر.. تصبحُ بلا خساراتٍ أو انكسارات، إلّا كسرَ فقدِهم وغيابهم عن ناظرَيك، تصبح حبيساً لذكرياتك معهم، وتشتاقُ لأن تضحكَ وأن تكون بخير، وأن تكونَ الطّفلَ المدلَّل، لكنَّك تكبر.. تكبر كثيراً حين تفقدُهم، وتصبح أحلامُك مقتصرةً على “عروس جوز وسكّر” من يدين أمّك، ومشوارٍ إلى المسبح خلفَ أبيك على الدّراجة النارية..
وعندَ الموت، يظهرُ الحبُّ جليّاً لك ممن حولك، تصبحُ بعد خسارتك تلك ممتنّاً، تمتنُّ لكلّ الآذانِ التي سمعَت نحيبَك، وسندَت قوامَك حين فقدتَ قدرتَك على الوقوف، لكلّ الأيادي التي احتضنَتك في لحظات حزنك، والقبلاتِ التي زُرعَت على جبينك ويديك حبّاً وصداقة، للمنازل التي فتحَت أبوابَها لك ولحزنك، لأصدقائك الذين احترموا كلَّ رغباتِك بالكلام والصَّمت وأنصتوا إليك بكل حالاتك، وبكَوا لبكائك و جلسوا بقربِك لتهدئتِك، لجميعهم الذين أحبّوك بعد أن انطفأت رغبتُك بالحياة، يحاولون دوماً أن يعيدوا لمَّ شتاتِك، وإحياءَ ذاتِك القديمة قبل فقداناتك تلك، تصبح أكثرَ حبّاً لأن تعيش لحظاتك معهم لأنَّك تخافُ أن تفقدَهم بأي لحظة، وتعيش معهم حقّاً وحقيقة، وتشكر الله، وتحمدُه، على وجوده دوماً معك، وعلى إرساله لأولئك الذين فعلوا كلَّ ذلك لأجلك.
أريدُ أن يعرفَ العَالمُ أنَّ أمّي قُتلَت بغيرِ حقّ في ليلة العيد، وأنَّ أبي ماتَ بسبب الكورونا والخوف والعزلة، وأنَّ إخوتي افترقوا عن أهلهم سنواتٍ عديدة وعاشوا اغترابَهم ذلك بسبب الحرب التي قتلَت أحلامَهم وشبابهم وحقَّهم في العيش بين حضنِ أمّهم وأبيهم، وأنَّني أحبّهم كثيراً ودوماً وأبداً.
وإلى الذين لا تسعُني الكلماتُ أن أخبرَهم، كم أنَّني ممتنّةٌ لهم وأحبُّهم، أنتم أولئك الذين تحبّون أنا القديمة، وأنا الفتاة التي تقف أمامَ باب الغرفة.