أصبحتُ أخشى ذلك الشعور؛ هل اختبرت ذلك الإحساس بأن شيئًا مرعبًا يحدث الآن، لكنك لم تعرف بالضبط ما هو بعد؟     ثم تتمنى ألا تعرف. فتشعر بخدر بسيط في أطرافك ورأسك، وذعر من شيء قادم لم تفهم بعد ما هو.

هذا ما حصل عندما أتى صديقي بسيارته ليأخذني للمنزل؟ قال لي أن هنالك شيء ما حصل في الحي لكنه يطمئنني أن الوضع جيد! فأسأل نفسي؛ إذا لماذا نزل من السيارة عند الحاجز؟ ولماذا أخذ يوشوش العسكري فتركنا نمرّ دون أي تفتيش أو سؤال مع نظرة خاطفة لي؟
أهلي لا يردون على الموبايل، وعند مدخل القرية، الناس تنظر لي نظرة مطوّلة، ثم يشيحون بعيونهم بعيدا كي يتجنبوا أي تواصل بصري معي. هل اختبرت هذا الشعور من قبل؟

أتمنى أن يكون جوابك لا!

***

بعد عشر سنوات من ذلك اليوم، أنا الآن في السويد بلا أجنحة ، أخذتُ مكان أخواي اللذان كان من المفترض أن يسبقوني هم ثم ألحقهم، لكن قدري لم يكتب لي ذلك، بل لطالما كتب لي قصّة مختلفة عمّا تمنيته.

منذ صغري تمنّيت أن يكون لديّ كغيري من الأطفال أشقاء بدل الطفولة الوحيدة التي عشتها، ليس فقط كي نلعب معًا أو ليفكّوا عزلتي، بل تمنيتهم سندًا لي، لأنني ومع نضوج وعيي اكتشفت حقيقة وضعنا المالي، أحزنني ذلك وفرض عليّ مسؤولية أكبر مني، مساعدة أهلي في مصروف المنزل، وعلى هذه المسؤولية أمضيت جزءا كبيرا من طفولتي. 

هكذا كان الوضع حتى ذلك اليوم عام 1995، أذكره جيدا بالتاريخ وبالساعة، وهو من الأيام القليلة التي شعرت أن الحياة سمعتني، سمعت أمنيتي، وقرّرتْ أن تكون كريمةً معي، فأهدتني ليس فقط ما حلمت به، بل أكثر! فبذلك اليوم كنت أقف عند باب المنزل عندما دخل أبي ومعه أخي المولود حديثًا، ثم دخلت جدتي ومعها الآخر، اثنين؟ نعم اثنين، اوسكار واليكو ، وصل أخواي، توأم، وصلا معًا، فأسميتهم أجنحتي. 

بسبب فارق العمر، كانت علاقتي بهم أبوية، شاركت بتربيتهم، وفي كل يوم عشته معهم، بنيت عليهم أملًا جديدًا، كنت أرى جناحاي ينموان وأصبحنا نلعب معًا ألعاب الصبيان، وفي كل مرة كنت ألعب معهم “لوي الدراع” كنت أنتبه أنهم يصيرون أقوى وأقوى، حتى صرت أفرح لخسارتي أمامهم لأني عرفتُ أن جناحاي أصبحا أقوى وأنّنا يوما ما سنحلق معا.

2011 بدأت الحرب في سوريا، وصار الرصاص، القتل، والموت جزءًا من أخبار كل يوم، شعرت بالمسؤولية عن سلامة أهلي، لكني لم أكن وحيدا في حملها هذه المرة، في عام 2013، قررنا أنا وأخواي الانتقال إلى السويد، وكانت الخطة أن يسافر اليكو أولًا ثم يتبعه اوسكار، وبعدها نحن، ومن وقتها صرنا نحلم بواقع أفضل، وأصبح الحلم أقرب للحقيقة عندما حدد أخي اليكو موعدًا للسفر.

قبل أسبوع من موعد السفر وخلال تحضيره له، زارني في مكان عملي في طرطوس، تحدثنا طويلًا، ونصحته بما كنت أستطيع، وشرعنا نخطط لأيامنا القادمة وشعرت أننا نتحدّث رجُل لرجُل، فلم يعد أخوتي أطفالا، ولم تعد علاقتي بهم أبوية كما كانت.

يومها أيضًا كنت قد حضّرت مفاجأة لأخي الثاني اوسكار، فقد شعرنا ببعض الذنب اتجاهه كونه لن يسافر مع اليكو فورًا. فاشتريت له حذاء “أديداس” غالي الثمن لونه أبيض مع خطين حمر عليه، ففرح به كثيرًا. وكانت الخطة أنه وبعد فترة قصيرة سيلتحق باليكو، فقريبًا ستطير أجنحتي، سأفتقدهم، ولكني سأطمئن أنهم على الأقل بأمان.

بوجودهما في حياتي ورغم الحرب، لكن الحياة أسهل، فمعًا سنتخلص من الضيقة المالية، المخططات أقرب إلى التنفيذ والأحلام أقرب إلى الحقيقة.

اليوم، أنا بالسويد، هم لم يأتوا، وكل ما بقي معي منهم هو قميص اليكو، احتفظ به هنا داخل خزانتي.

***

بالعودة إلى ذلك اليوم، صرخت بصديقي، ماذا حصل، “شو صار؟” “صاروخ نزل عنا بالحارة”، حاولوا طمأنتي انّ الوضع جيّد، نقلوا أخواي إلى المستشفى، لكننا فقط بحاجة كيس دم، وأنا هنا صرت أجري اتصالاتي لتأمن كيس الدم، وذهني يرفض تمامًا تصديق أنها مجرّد خدعة هدفها مساعدتي لأتقبّل الكارثة على جرعات. 

فور وصولي للحيّ، اكتسحت أنفي رائحة الدم المخلوط مع اللحم المحترق، الناس مجتمعين، أبي وأمي منهارين تمامًا، لكنّي لم أفهم تمامًا ما حصل إلا عند تلك اللحظة التي تلقيت فيها الحقيقة دفعة واحدة، تلقيتها كصخرة سقطت بين عيناي، لحظة لمحتُ حذاء اوسكار “الآديداس” مقذوفًا بعيدًا على الأرض وسط بقعة دم كبيرة.

“ما عاد بدنا كيس الدم”

تكسّرت جناحاي، “متل ما اجو بيوم واحد، خسرتن بيوم واحد”.  

نظرتُ إلى أبي، أبي الذي أردت ألا ينحني، رأيته منهارًا، هرعت إليه لألملم منه ما بتقى من أب خسر أولاده، ركضت وأمسكته من ذراعه وبذراعه الأخرى كان يمسكه جارنا، جارنا الذي خسر ابنه الوحيد منذ بضعة أيام، نظرت في وجه أبي وقلت له، ” أبي شكور ربك انو ما خسرت كل ولادك، شوف جارنا بيوم واحد خسر ابنه الوحيد” وبدل مساعدة أبي، كسرت جارنا، في تلك اللحظة لم أكن أدري ماذا أقول، فوضى الصدمة، عندما تحاول إظهار قوتك أمام الصدمة فتزيد من ألمها. 

بعد انتهاء مراسم الجنازة، والتعزية، لم ينتهي الموت من مطاردتنا، كنت قد قررت أن أبعد أهلي عن القرية، أخدتهم إلى مكان عملي في طرطوس، وعاشوا معي لدة شهر في غرفتي الصغيرة، لكنهم لم يتمكنوا من البقاء أكثر، أرادوا العودة إلى البيت، لكي يداووا جراحهم بالحزن. اتصلت بأحد معارفي ليوصلهم، ودعتهم وعدت إلى سريري. وبعد مضي عشر دقائق وإذ بهاتفي يرن. إنه المشفى، السيارة تعرضت لحادث وتوفي السائق لكن أهلك بخير، ركضت إلى الشارع دون حذاء، أوقفت تكسي، “عالمشفى بسرعة”.  في تلك اللحظة بالذات كنت أغلي غضبًا من كل شيء، والأهم، من الله نفسه، “ليش يا الله ليش؟”.

وجدت أهلي بخير، سوى بعض الإصابات والرضوض. لم أجد أي تبرير يشرح تلك العبثية أو سخافة الحياة التي شعرت فيها، وأكتر تبرير يبعث في نفسي النفور هو محاولة تسميتهم شهداءً، ومع أني أفهم وأقدّر قدسيّة الشهادة، لكني لم أرى بقصتي أن إعطائهم مكانة اجتماعية عالية قد يخفف الألم. فبمحاولة رفع أحبتنا يتجاهلون حجم خسارتنا، فليسوا شهداءً، هم أكثر من مجرد مكانة اجتماعية ودينية او غيرها، هم إخوتي أجنحتي، ولم يرغبوا بالموت يومًا ولم يموتوا لفكرة أو قضية ليكونوا شهداء، بل كانت لديهم حياة. ومن وجهة نظري هم فقط أبرياء.

اعلم ذلك! صرت ادخل إلى صفحاتهم في فيسبوك، اقلب في صورهم، وأراجع محادثاتنا، وتعليقاتهم، كانوا أحياء!! ولم يريدوا أن يموتوا يوما، 

سافرتُ بعد أقل من سنة على الحادثة، وقد كنت في اليونان أنتظر سفري إلى أوروبا وقت سنويّة أخوتي، كنت مسافرًا لوحدي وفي حقيبتي وضعتُ قميص اليكو الذي كان من المفروض أن يكون هنا قبلي. وصلت إلى السويد وتمكنت بفترة قياسية أن أكوّن حياة كريمة لي ولأهلي وأختي. 

بعدها، عُدتُ مرّة واحدة إلى سوريا، ولطالما حلمت بزيارة قبريّ اوسكار واليكو، كنت أتوق لأن أخبرهم عن قرب بكل ما حدث بعد غيابهما، أردت أن أحس بقربهما مني فجلست ملتصقا بقبريهما. جلست طويلا، وحدثتهم عن كل شيء، عن اهلي، وحياتي، عن أولادي، وعن مشاكلي. لكن المفارقة هنا أني لم أشعر بالقرب وأنا بجانب قبريهما، هل ذلك لأنهم لا يزالون في قلبي وقلبي أقرب إليّ من قبورهم؟ أصلًا، لم أكن اقتنع بأفكارنا الاجتماعية كـ. “زيارة الموتى في المقبرة” فزادت قناعتي بذلك وبانهم أحياء معي وبداخلي رغم عدم وجودهم. فحملتهم داخلي وخرجت من المقبرة، وعدت لأحيا في السويد.

***

اليوم بعد 10 سنين على القصة، لم أعد أذكرهم كل يوم، صرت أتذكرهم بلحظات معينة، بأكلة، بموديل ثياب، لكن الوجع هو هو. ففي يومٍ من الأيام عدتُ  للمنزل وقد كانت زوجتي تنظّف وتتخلص من بعض الأشياء القديمة التي لم نعد نستخدمها، وكانتْ قد جمعتْ في كيسٍ كبير أشياء تنوي رميها، سألتني إذا كنت أريد شيئًا منهم وأجبتها بـ”لا”، رفعتْ الكيس ومشت به خارجًا لترميه، فلمحتُ قميص اليكو بداخله، “جنّيت”، صرتُ أصرخ في وجهها، مسكينة هي، لم تكن تعرف أنه قميص أخي، اعتذرَتْ، وعرفتُ أن الوجع لا يزال طريًا بداخلي.

يقولون لي أنني أبدو قاسيًا، بصوتي الضخم وعقدة انحفرت بعمق بين حاجبيّ،  وأنا أقول لهم: “قل لي ماذا عشت أقول لك من أنت”، حياتي لم تدرّبني على الفرح، انا لستُ قاسيًا، لكن حياتي كانت قاسيةً معي، رسمَت شكل وجهي، ثم حفرَتْ بجلدي عقدة، فأصبحت جاهزًا لقسوة الحياة، فاليوم انا قد لا أشارك في مناسبة فرح، لكن من المستحيل ألا أشارك في عزاء، لأني صرت أشعر بألم الناس وأعي أهمية وجودنا مع بعض، تعلّمت انه لولا الناس الذين وقفوا معنا، لم نكن لنقوم من مصيبتنا، أنا اليوم لا أترك أحدًا موجوعًا لوحده. فهكذا صار وجهي يخبر بقصّتي، شخص ربح جناحان في يوم واحد، وخسرهما بيوم واحد، بعقدة على جبينه، والله أعلم بما في قلبه.

ذلك الشعور بأن هناك شيئًا مرعبًا قد يحصل، ما يزال يرافقني، أخشى أن أنجب صبيًا فيظل وحيدًا، أخشى أن أعود للمنزل فأنادي بأنني رجعت، فلا أسمع ردًا. فرغم أني سافرت وصرتُ بعيدًا، لكني صرتُ أخاف أن تكون الخسارة تتربّص لي وراء رنة التلفون، على المنعطف، أو على مدخل الحيّ.

في النهاية، ليست كل الخسارات مثل بعضها، واليوم أذا أردت أن أقول لكم شيئًا تعلّمته من كل هذه الرحلة، ومن كل علاقتي الطويلة مع الخسارة والحرب فسأقول:

“اذا أهل بيتكن ما تأذّوا، فمبروك، انتو ربحتوا الحرب”.